|

لم يعرف تاريخ الفقه من قبله رجلا كتب في الحب وأحوال العشاق بمثل هذه الرقة والعذوبة والصراحة، وجادل الفقهاء في الوقت نفسه بكل تلك الحدة والعنف والصرامة!..

اجتمعت فيه صفات متناقضة: لين الطبع وسعة الأفق وعذوبة النفس، مع التشدد والتضييق وسرعة الانفعال، والتعصب لكل ما يعتقد أنه حق، ورفض ما عداه .. فهو يناقش كل وجوه النظر في المسائل، حتى إذا اطمأن إلى رأي، أدان كل مخالفيه بلا رحمة، وسخر بهم، وكال لهم الاتهامات، لا يراعي لهم فضلا ولا وقارا ..!

من أجل ذلك أحبه بعض الناس حتى تحدوا فيه حكام عصرهم، وكرهه آخرون حتى أهدروا فيه تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق إذ أغروا به السلطان.!

ولد وعاش ومات في الأندلس ـ أجمل بلاد المسلمين وخيرها ـ في شر فترة من عصور التاريخ الإسلامي .. إذ كانت الدولة الإسلامية العظمى في الأندلس، قد تمزقت إلى دويلات صغيرة، فذهب زمن الخلفاء أولى العزم العماليق العظام، ليجيء بدلا منه عصر الحكام الأقزام، ليتصارعوا فيما بينهم، وليكيد كل واحد منهم لأخيه. ويعربد على دويلته فينقصها من أطرافها، ويحالف الفرنجة الطامعين في أن يستعيدوا الأندلس بأسره .. ومن هؤلاء الحكام الأقزام من رضى الدنية في دينه ودنياه، فأغرى الفرنج بالأموال الطائلة ليعينوه على أطماعه في الدويلات الإسلامية المجاورة الأخرى..!

وهكذا انطفأت منارات المعرفة في قرطبة، وهي التي تضيء لكل ما حولها وما يليها من بلاد أوربا، فأصبحت قرطبة عاصمة الدولة الكبرى في الأيام الزاهدة الذاهبة، دويلة من الدويلات الإسلامية..! وانصرف أهل قرطبة من جد الأمور إلى هزلها ..

ونهبت خزائن الكتب في قرطبة، وهي خزائن لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل .. وانصرف أهل قرطبة عن اقتناء الكتب كما تعودوا، إلى حيازة الجواري الحسان والغلمان!. وبعد أن كان الأثرياء يتنافسون على شراء الكتب الجديدة، حتى لقد كان المؤلفون في المشرق العربي ينشرون كتبهم في الأندلس، قبل أن تظهر في بلادهم، كما صنع صاحب الأغاني، بعد كل هذا أصبح الناس يتنافسون على شراء الجواري الشقراوات والغلمان من فرنا وإيطاليا والجزر المجاورة في المحيط والبحر الأبيض المتوسط.

وبدلا من التفنن في إقامة خزائن للكتب، تفننوا في بناء الأجنحة للجواري. وذوي فن النسخ وافتقر الناسخون، لتزدهر صناعة النخاسة ويثري النخاسون!. وأصبحت أسواق الأدب في متنزهات قرطبة مغاني للعشاق وخمائل للمتعة!

وإذ بالعقل العربي في الأندلس يهجر تقاليده الإسلامية في البحث والمغامرة واكتشاف المجهول وإغناء الحياة بالإضافات، ليسقط في الجمود والتقليد. وإذ بالناس يتخذون الشيوخ أولياء من دون الله، ويتشفعون بهم من دون العمل..!

وخلال هذا التحول كانت الفضائل تتهاوى، وقيم الإسلام تترنح، والباطل يغشى وجه الحياة، والإنسان الصادق يغترب .. والحق كسير!

وانطفأت الحمية .. وخبت الغيرة، وتزايل قدر الكتاب والشعراء والمفكرين ومهرة الصناع وأهل الفنون، المنتجة ليعلو مقام الجواري والغلمان والمخنثين والشذاذ..!

وخلال هذا كله يتناقل الناس قصة أمير في أشبيلية اشتهت إحدى نسائه أن تغوص بأقدامها في الطين، فأمر بأن تصنع لها بركة من المسك المعجون بالماء المعطر..! أنفق على هذه البركة ما يكفي لتجهيز جيش، حتى إذا أحاطت جيوش الفرنجة بأشبيلية والأمير ونساؤه يعبثون عراة في طين المسك لم يجد الأمير في خزائنه ما يتقوى به على الدفاع عن مدينته.!

وهكذا سقطوا في الطين .. المعطر!

وفي بعض نواحي الأندلس تقل المياه، وينقطع المطر فتجف الأرض، ويعطش الأحياء، وبدلا من أن يؤدي المسلمون صلاة الاستسقاء، عسى أن يستجيب لهم الله فيعم الماء، ليسقوا الأحياء والأرض، كانوا يتجهون إلى فلنسوة جلبها أسلافهم من الإمام مالك، ليستسقوا بها..!

ثم يتناقل الناس قصة رجل فاضل من أهل العلم عشق جندياً حسن الطلعة من جيش الفرنجة الذي كان يحاصر إحدى المدن، فاستخلص الرجل الذي كان فاضلا هذا الجندي لنفسه، وأمره على قصره لينهي ويأمر فيه، وأباحه حريم القصر، لينال الرجل العالم من الجندي ما يريد..!

وحين كانت خزائن الدويلات خالية مما تتطلبه مؤنة الجيش، بنى أحد الأمراء قصرا ضخما وجلب له غرائب الأزهار والأشجار والطيور النادرة، وشق له نهرا صغيرا من قمة الجبل حيث تتراكم الثلوج في الشتاء لينحدر الماء إذا ذابت الثلوج، ويصب في جداول تتخلل حدائق القصر، وتنتهي إلى بحيرة صنع قاعها من الرخام الأزرق الفاخر الثمين، ورصعت شطآنها بالأحجار الكريمة! لتسبح فيها الجواري الشقراوات المجلوبات من جنوب فرنسا، على شعاع الشمس إذا كان النهار، وعلى ضوء القمر أو المصابيح الذهبية في ليالي الصيف..!

وسط هذا الجو الزاخر بصور رائعة من جمال الطبيعة، ومظاهر مؤسية من فساد المجتمع نشأ ابن حزم.

عاش في هذا المضطرب نحو اثنين وسبعين عاما .. اشتغل خلالها بالسياسة والأدب، والفقه، والشعر، وكابد الحياة والناس، وعرف المتاع والعذاب، وحاول أن يتعاطى الفلسفة والمنطق وعلوم الاجتماع والفلك والرياضة وعلم النفس وسماه بهذه الاسم، واحتك بمجتمعه، فصوره ورسم أعماقه ومفاسده ومظالمه، وهب في انفعال يرفض مجتمعه ذاك، ويحاول أن يهدم واقعه لينيبه من جديد!

وفي سبيل ذلك لم يكتف بالكتابة بل خاض غمرات الصراع السياسي واشترك في مغامرات عسكرية .. وعرف الحب والنعيم، وعرف الجوى، ولم يتحرج ـ وهو الفقيه الذي يتربص به أعداؤه ـ من التصريح بتجاربه ومشاهداته، في بيان مشرق عذب، لم يتكلف فيه تغطية العبارات والألفاظ..

وترك مؤلفات كتبها بلغت عدتها أربعمائة بين كتب طوال ورسائل قصيرة كالمقالات .. ذلك أن ابن حزم كان حين يعكف على القراءة والكتابة لا يخرج عما أخذ فيه، ولا يسمح لأي ظرف مهما يكن خطره بأن يعطله!

وكثيرا ما كان يرفض الخروج من غرفة عمله، ويأمر برد زواره وقاصديه! ولقد أغضب بسلوكه ذاك. كثيرا من أصدقائه والمقربين إليه، ولكنه كان يعتذر إليهم إذا خرج من عمله يستروح، فلولا أنه يأخذ نفسه بالشدة في العمل، لما أتيح له أن ينجز شيئا .. والعمل عنده عبادة، ولئن اعتكف العابد ليتعبد، فما ينبغي أن يصرفه عن شأنه أي طارق حتى يفرغ مما هو فيه!

ولد علي بن احمد بن سعيد بن حزم، في آخر شهر رمضان قبيل شروق يوم عيد الفطر عام 384 هـ، في قرطبة حاضرة ذلك الزمان. كان أبوه وزيراً للخليفة الأموي هشام المؤيد وهو من أواخر الخلفاء الأمويين في الأندلس ..

ولد ابن حزم في قصر فاخر، فقد أصاب أجداده وأبوه ثروة ضخمة، فترك أبوه منازل الأباء في غربي قرطبة حيث يسكن أوساط الناس، واتخذ لنفسه قصرا منيفا في حي السادة شرقي قرطبة، على مقربة من دار الخلافة.

تفتحت عينا الصبي على مجال الترف، ومسارح المتاع، ومغاني الجمال، في قصر أبيه الشامخ على مرتفع يشرف على كل قرطبة، محاطا بحدائق واسعة، ترتفع فيها الأشجار، ويصوغ الزهر، ويغرد الطير، وتنساب الجداول الصغيرة، ويتفجر الماء في نافورات منمنمة الحواشي والجنبات بالفسيفساء...

على مرائي الجمال ومغان الحسن تلك تفتحت عيناه .. فما سمع في طفولته غير الشدو، والغناء، وما رأى غير الوجوه الصباح، وخضرة الحدائق، وروعة ألوان الطبيعة الفتانة، وما ملأ صدره إلا بشذي الزهر وعطر الفاتنات .. الجبال على البعد تجلل هاماتها الثلوج وتغمر الخضرة الريانة كل سفوحها .. وهمس الجداول، وخرير الأنهار، ورنين الضحكات الفضية، وعطر الأنسام، وحلاوة الأنغام واتساق القدود، ونضارة الخدود والتماع الأضواء على الملابس الزاهية تلف القامات المتأودة .. أشعة واهنة من الشمس تتسلل من وراء السحاب وتتخلل الأغصان اللفاء، فتوشي الظلال على الأديم ذي الأعشاب .. منابر الذهب والفضة .. هذا هو كل ما عرفه ابن حزم منذ نشأ حتى وثب به الصبا على أوافل الفتوة .. وبلغ أولى سنوات الشباب ..

وهو في الخامسة عشرة، تمرد على الخليفة هشام المؤيد أقرب الأمراء إليه، فساقوا جيشا من العرب والبربر والفرنجة فأسقطوا الخليفة، وولوا مكانه رجلا آخر من بني أمية .. وعزل الحاكم الجديد والد ابن حزم من منصبه واعتقله، ثم أفرج عنه، بعد حين ..

قال ابن حزم: "شملنا بعد قيام أمر المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال والتغريب والاغرام الفادح .. وأرزمت الفتنة وخصتنا، إلى أن توفى أبي الوزير رحمه الله ونحن في هذه الأحوال بعد العصر يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة عام اثنين وأربعمائة" ..

كان ابن حزم في الخامسة عشرة حين سقط الخليفة هشام المؤيد، وعزل أبوه من منصب الوزارة، وصادرت الدولة الجديدة قصره في شرقي قرطبة وما وصلت إليه من أمواله .. وبقى للأسرة بعد ذلك شيء .. منازل قديمة في غربي قرطبة انتقلت إليها، وضياع ودور متفرقة في أرجاء الأندلس.

ولقد عاش أبوه معتزلا الناس أربع سنوات بعد النكبة، ثم مات حزينا محسورا، وتآمر الفرنجة والبربر وبعض بني أمية على الحاكم الجديد، فوثبوا عليه، وولوا مكانه رجلا آخر، وعاثوا في قرطبة فسادا فنهبوا الأموال وانتهكوا الحرمات واغتصبوا النساء.

وهاهو ذا الآن يصبح وحيدا بعد أن قتل أبوه الوزير صبرا وكمدا. ترك الفتى قرطبة باكيا، وكتب يصف حالته "ضرب الدهر ضرباته. وأجلينا عن منازلنا، وتغلب علينا جند البربر، فخرجت عن قرطبة أول المحرم عام أربع وأربعمائة" .. كان إذ ذاك في العشرين .. فتى مثقل القلب بالهموم، تضطرم أعماقه بالإصرار على أن يغير هذا العالم المثخن بالفوضى والمظالم والفساد.! لقد علمه أبوه الوزير وثقفه لكي يصبح وزيرا مثله، فقد كانت الوزارة في ذلك الزمان تورث كما يورث الملك! وقد علمه أبوه منذ بدأ يعي، أنه قرشي من بني أمية .. جاء أجداده مع الفتح الإسلامي. علمه أن جده الأعلى كان أخا بالولاية ليزيد بن أبي سفيان الذي بعثه أبو بكر الصديق في أول بعثة لفتح الشام ..
وإذن فمعاوية عمه، وأجداده هم الذين فتحو الأندلس وأقاموا فيها الدولة العظمى .. فالوفاء لأسلافه يقضي عليه بأن ينتصر للأمويين، ويدافع عنهم، ويدعم دولتهم .. فإذا سقطت هذه الدولة فالوفاء يقتضيه أن يعمل من أجل إحيائها..! .. فإذا تصارع أمراؤها فليعتزل هو الصراع!.

كان قبل، قد نال قسطا من التعليم. وما أرسله أبوه ليتعلم في حلقات الجامع، أو عهد به إلى مدرس .. بل آثر أن يعلمه في القصر. ولأن أباه كان خبيرا بما آلت إليه الحياة من فساد وتفسخ، لم يشأ أن يعهد بهذا الطفل إلى معلمين من الرجال .. بل اختار له معلمات من النساء من قريباته من الجواري .. وكانت من نساء قرطبة فقيهات وراويات شعر ومقرئات ومحدثات وطبيبات وعالمات بالفلك والفلسفة.

ربى ابن حزن في حجور النساء كما قال .. ولازمهن حتى بلغ مرحلة الشباب .. وأتاح له لزومهن معرفة كثير من أحوالهن وأسرارهن، ودراسة خلجات قلوبهن، والإطلاع على ما يملكن من فضائل ورذائل.!

كتب عن هذه المرحلة من صباه فيما بعد، فأعلن عدم ثقته بالنساء، وحكم عليهن في ألفاظ مكشوفة أنهن ما لم يشغلهن العلم أو العمل متفرغات البال للرجال.

"قرأت في سير ملوك السودان أن الملك منهم، يوكل ثقة له بنسائه، يلقي عليهم ضريبة من غزل الصوف، يشتغلن بها أبد الدهر، فالمرأة بغير شغل إنما تشوق إلى الرجال... ثم يقول: "لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري لأني ربيت في حجورهن، نشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب" ثم يسترسل "… وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرا من الأشعار، ودربنني على الخط، ولم يكن وكدي (أي همي)، وأعمال ذهني منذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدا إلا تعرف أسبابهن، والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك وأنا لا أنسى شيئا مما أراه منهن. وأصل ذلك غيرة شديدة طبعت عليها وسوء ظن في جهتهن فطرت به، فأشرفت من أسبابهن على غير قليل.

ويعترف أنه منذ الطفولة قد اطلع من أسرار النساء والرجال على أمر عظيم، وأصل ذلك أني لم احسن قط بأحد ظنا في هذا الشأن، مع غيرة شديدة ركبت في ...

عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الغيرة من الايمان) ، رواه البزار.

 فلم أزل باحثا عن أسرارهن، وكن قد أنسن مني بكتمان، فكن يطلعنني على غوامض أمورهن، ولولا أن أكون منبها على عورات يستعاذ بالله منها، لأوردت من تنبههن في السر ومكرهن فيه عجائب تذهل الألباب .. ثم يضيف: "أني لأعرف هذا وأتقنه، ومع هذا يعلم الله وكفى به عليما أني برئ الساحة" .. وثم يقسم بأغلظ الأيمان على عفته، وأنه لم يقترف حراما قط.!

وابن حزم يروي ذكريات طفولته عن النساء اللائى عهد إليهن أبوه بتربيته .. وهن كما قال من الجواري المهذبات ومن قرابته. وكان أبوه يزوره خلال الدرس ليطمئن عليه، وقد أقام عليه رقباء ورقائب من الشيوخ والنساء العجائز. على أنه صبا إلى شقراء منهن فامتنعت منه ولاحقها في شرفات القصر عسى أن تبادله ما يحس، فيستوهبها أباه، ولكنها ظلت تتمنع فأباها عليه أبوه، ووهبه شقراء أخرى، ولكن الفتى لم يستطع السلو عنها سنوات .. فزوجه أبوه من شقراء أجل من تلك، ووهبه جارية شقراء أيضاً، وعاش ابن حزم لا يستحسن غير الشقراوات كما قال ..
وكان قد حفظ القرآن وقدرا صالحا من الشعر وجود الخط .. وأن له أن يفارق مدرسة النساء إلى حلقات الرجال. واختار له أبوه عالما زاهدا ناسكا فاضلا، وتحرى الأب أن يكون معلم ابنه حصورا ..

كتب ابن حزم "وأني كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورا، محظورا على بين رقباء، ورقائب (من النساء)، فلما ملكت نفسي وقلت صحبت أبا الحسن بن علي علي الفاسي. وكان عاقلا عالما ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح، وفي الزهد في الدنيا، والاجتهاد للآخرة. ودينا وورعا، فنفعني الله به كثيرا، وعلمت مواضع الإساءة وقبح المعاصي. ومات أبو الحسن رحمه الله في طريق الحق .."

صحب ابن حزم هذا الشيخ الذي اختاره له أبوه، فأنتزعه الشيخ من كل دواعي الإغراء لمن هو في مثل سنه، فما كانت النساء تحجب عن الرجال، وكان هذا كما يقول ابن حزن هو جاري العادة في التربية ببلاد الأندلس.
بدأ الجلوس إلى شيخه وهو في نحو السادة عشرة وصحبه إلى حلقات علماء التفسير والحديث واللغة.

بهر الفتى أشياخه بسرعة استيعابه، وقوة حفظه، ودقة فهمه .. وبعد أن استوعب ابن حزم ما في مجالس القرآن والتفسير، صحبه شيخه ومربيه إلى حلقات الفقه.

حتى إذا خرج مربيه إلى الحج فمات في بعض الطريق، استقل ابن حزم بحضور الحلقات وقد علم من شيخه الراحل قدر كل واحد من أصحاب الحلقات .. فلزم الحلقات بالجامع الكبير بالجانب الغربي من قرطبة، حيث يعيش أواسط الناس وسوادهم، وأهل العلم والطلاب. وفي هذه الحلقات عنى إلى جانب علوم الدين بدراسة النحو وعلوم اللغة والفلك والفلسفة والمنطق وسائر المعارف الإنسانية الموجودة في عصره.

ولقد اهتم بالنحو اهتماما خاصا، وأدرك أن إتقان النحو هو سبيله إلى فهم النصوص. ذلك أنه كان قد شهد عجبا مما يؤدي إليه الجهل الشائع بالنحو. حتى لقد تفكه بحكايات عن ذلك فيما بعد .. فروي أن رجلا كان يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة "وكان عديم الورع قليل الصلاح. فخطبنا يوم الجمعة في جامع قرطبة فتلا في خطبته: ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) فقرأها بنونين (عننتم). فلما انتهت الصلاة جاءه بعض تلاميذه وكانوا يأخذون عنه رأي مالك، فذكروا له الآية صحيحة، فأنكرها وزعم أنه هكذا تعلمها وهكذا يعلمها. فلما احتكموا إلى المصحف، دخل وعاد بالمصحف وقد حذف نقطة من ناء عنتم، لتكون نونين!" ..

ويروى عن مقرئ أخر يعلم الناس القرآن، وهو عربي بل قرشي، "وأحد مقرئين ثلاثة كانوا يقرئون العامة في قرطبة"، وكان لا يحسن النحو، فقرأ عليه قارئ يوما في سورة ق .

{ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (سورة ق ، الآية : 19 )

فرد عليه القرشي "تحيد بالتنوين". فراجعه القارئ وكان يحسن النحو، فلج المقرئ وثبت على "التنوين". وانتشر الخبر، حتى وصل إلى فقيه كان صديقا لذلك المقرئ، "فذهب إليه وقال للمقرئ القرشي: "انقطع عهدي بقراءة القرآن على مقرئ، وقد أردت تجديد ذلك عليك". فسارع الفقيه إلى ذلك. فبدأ يقرأ من سورة ق حتى إذا بلغ إلى الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بتنوين كلمة (تحيد). فقال الفقيه للمقرئ: "لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك". فلج المقرئ. فقال له الفقيه: (يا أخي أنه لم يحملني على القراءة عليك إلا ردك إلى الحق في لطف، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو .. فإن الأفعال لا يدخلها التنوين البتة). فتحير المقرئ ولم يقتنع حتى جاءوا بالمصحف وبعدد من مصاحف الجيران فوجدها مشكولة بلا تنوين".

ظل ابن حزم يدرس العلوم الدينية واللغوية والعلوم الإنسانية ودرس الكتب المترجمة في الأدب والفلسفة والخطابة والفلك. ودرس الرياضات. ودرس الشعر العربي وأخبار العرب والتاريخ.

ولقد درس العلوم الدينية على مذهب الإمام مالك، وكان هو المذهب الرسمي للدولة، فقد فرضه الأمويون، وما كانوا يعينون قضاة أو يسمحون لفقيه أو عالم، بالفتيا أو إلقاء الدروس، إن لم يكن من اتباع الإمام مالك .. ولم يسمحوا لمذهب غيره بالوجود في الأندلس، كما فرض العباسيون في المشرق مذهب الإمام أبي حنيفة .. ولهذا قال ابن حزم: "مذهبان انتشروا بقوة السلطان، مذهب أبي حنيفة في المشرق ومذهب مالك في المغرب".

انكب ابن حزم على طلب العلم .. حتى أصبحت قرطبة مسرحا للحرب بين الأمراء الأمويين في صراعهم الداخلي يرمون قرطبة بجند البربر وعسكر الفرنجة على قرطبة الشماء، ليفسدوا فيها الدماء .. حتى لقد قتلوا نحو عشرين ألفا من أهلها من بينهم عدد كبير من العلماء والفقهاء والمقرئين والقراء وشيوخ المساجد!

فرحل الشاب إلى مرية بعيدا عن قرطبة ليقيم في ضيعة لأهله هناك، وفي أعماقه ينزف القلب الممزق، ويحتدم في صدره الشوق إلى أن ينفذ الإسلام وأن ينشل الأندلس بأسره من كل هذا الهوان ..!

ولكن كيف؟! ما عساه أن يصنع هو وحده، وهو بعد طالب علم في الثانية والعشرين، بلا جيش ولا نصير!؟
فليتفرغ هناك لدراسة كل ما بين يديه من آثار في الدين والفكر، وكل معطيات العقل الإنساني .. فليعمر عقله بالعلم وقلبه بالأمل حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .. وعندما يجئ الوقت، سيشرع قلمه ليواجه الفوضى، والعار، والفساد بأقوى مما يستطيعه السيف البتار!...

وفي المرية، وجد عددا كبيرا من الشيوخ ممن هاجروا في أرض الله الواسعة، نأيا بأنفسهم عن مضطرب الفتنة والدماء في قرطبة المنتهكة، التي غمرت أجواءها العطرة الطيبة، رائحة الموت، والحياة المتعفنة، ورائحة العار ..!

ولزم ابن حزم من وجد في "المرية" من شيوخ قرطبة وأخذ عنهم، وقسم وقته بين حضور الدروس في المسجد، والقراءة في البيت .. وظل على هذا الحال نحو ثلاث سنوات.

ولكن الأمراء الأمويين في صراعهم على السلطة سقطوا جميعاً فآل الأمر في قرطبة إلى آل حمود .. وهم علويون، وبين الأمويين والعلويين خصام متقد!

استولى العلويون على قرطبة، وبسطوا سلطانهم على كثير من أقطار الأندلس، فتوجس ابن حزم في نفسه خيفة مما قد يقع له .. فهو ابن أسرة تنتمي للأمويين.

وصحت مخاوف ابن حزم طالب العلم الذي أصبح في الخامسة والعشرين، إذ أوقع به والي "المرية"، واتهمه بالتآمر مع صاحب له ليعيدوا ملك بني أمية .. فاعتقله هو وصاحبه شهرا ثم أمر بإبعادهما. فتطوع أحد أصحاب حاكم "المرية" باستضافة ابن حزم وصاحبه .. يقول ابن حزم "فأقمنا عنده شهورا في خير دار إقامة، وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة، وأكملهم معروفا، وأتمهم سيادة، ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية عند ظهور أمير المؤمنين المرتضى عبد الرحمن بن محمد وساكناه بها.

كان المرتضى عبد الرحمن بن محمد حفيد عبد الرحمن الناصر رجلا صالحا، هرب من قرطبة حين اشتعلت فيها الحروب الداخلية بين أبناء عمومته من الأمويين، واعتزل الفتنة، ثم ظهر بعد حين في "بلنسية"، ودعا لنفسه بالخلافة ..

بادر ابن حزم بتأييد المرتضى .. فهاهو ذا رجل صالح من بني أمية، على نقيض الأمراء الأمويين الآخرين الذين أباحوا قرطبة جيوش البربر والفرنجة، وارتضوا أن يؤدوا الجزية للفرنجة ليستعينوا بهم في الصراع على الحكم!

وكان المرتضى متفقها يعرف ابن حزم عنه التقوى وحسن الدين، ويتوسم فيه أن سيعيد مجد جده الأعلى عبد الرحمن الناصر، أيام نهض يوحد الأندلس، ويستعيد فيه عظمة الإسلام، فسعى في عمارة الأرض وجعل من قرطبة حصنا حصينا للإسلام، ومشرقا لنور المعرفة، وجعل متنزهاتها ندوات للثقافة والجدل الفلسفي، يتمشى فيها المفكرون يجادلون ويعلمون، كما كانت أثينا في عصورها الزاهرة.

وكان المرتضى عبد الرحمن بن محمد نفسه يريد أن يعيد قرطبة والأندلس كله إلى أيام جده حين كان ملوك أوروبا وأمراؤها يسعون إليه أو يقدمون له الجزية، وحين كان العلماء والفقهاء والمفكرون والكتاب والشعراء هم قسمات الوجه المضيء لقرطبة، ودولة الإسلام في الأندلس!

ولكن المرتضى عبد الرحمن بن محمد لم يكن يملك من مواهب رجل الدولة إلا الصلاح وحسن النية والرغبة الصادقة في الإصلاح .. ولا شيء بعد! .. لا حزم، ولا قدرة، ولا حسن بصر بالرجال، ولا سائر الوسائل التي تكفل النجاح لمن يريد أن يتولى أمر الناس ويقود أو ينشئ دولة.!

ولكن ابن حزم وجد نفسه مندفعا إلى مبايعة الرجل الصالح،عسى أن يستطيعا معا هدم هذا العالم الفاسد وبناءه من جديد على البر والتقوى والنجدة والعدل.

أقام ابن حزم في بلنسية مع المرتضى عبد الرحمن بن محمد يدعو إليه ويحشد له طلاب العلم ويخطب الناس ويطالبهم بأن يبايعون بالخلافة. على أنه ظل خلال نشاطه السياسي العارم، يواظب على حلقات الدرس فيتلقى عن شيوخها.

وذات مرة سأل ابن حزم شيخ الحلقة عن مسألة من فقه مالك، فأجابه شيخه، ولكن ابن حزم لم يقتنع بالإجابة فاعترض، وضاق به الشيخ، فقال له أحد الطلاب المقربين إلى شيخ الحلقة: "ليس هذا من منتحلاتك!" ذلك أنه كان حتى ذلك الوقت ينتحل كتابة الشعر والنثر الفني فحسب، وكان زملاؤه يشدون له بطلاوة الأسلوب ورشاقة العبارة، ولم يستطع ابن حزم أن يرد فما كان يعرف فقه مالك بعد، وضحك منه الشيخ والطلاب.

غضب ابن حزم حتى قام لينصرف من الحلقة، ولكنه كظم غيظه وقعد إلى نهاية الدرس، ثم اعتكف في داره يقرأ النهار والليل في فقه مالك، وفقه الأئمة الآخرين أصحاب المذاهب، وخرج بعد عدة أشهر إلى الناس، فحضر الحلقة التي شهدت السخرية منه .. فناظر الشيخ والطلاب احسن مناظرة، فأدهشهم، وقال وهو ينصرف: أنا أتبع الحق واجتهد، ولا أتقيد بمذهب.

وأثناء انقطاعه لقراءة الفقه، أعجب بمذهب الشافعي، فمال إليه ولكنه لم يتقيد به .. أعجب في الشافعي تمسكه بالنصوص من القرآن والسنة، وعزوفه عن تقليد من سبقه، واستنباطه الأحكام من النصوص، واعتباره الفقه هو النص أو الحمل على النص (أي استخراج الحكم من النص أي القياس عليه).

غير أن ابن حزم لم يلبث أن هجر القياس، ووجد أن ما قاله الشافعي في رفض الاستحسان، يصلح حجة لرفض القياس، وأنه لا حكم إلا فيما تضمنته نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة إجماعا لا يختلف عليه واحد منهم رضي الله عنهم.

وقد اهتدى إلى هذا الرأي عندما ما كان يقرأ فقه الإمام الشافعي .. وما كتبه الآخرون عنه، فوقع على كتاب داود الأصبهاني عن مناقب الشافعي .. وأعجب الشاب بالأصبهاني وكتابته، وحاول أن يتتبعه ولكنه لم يجد في بلنسية ما يغنيه .. لو أنه يعود إلى قرطبة أم المدائن في الأندلس! ففي قرطبة مهما يكن من أمر ما ليس في غيرها من المدائن!

ولقد عاتبه بعض أصدقائه في موقفه من المذهب المالكي، فقال لهم أن الإخلاص للإسلام هو الذي دفعه إلى أن يترك المذهب .. وما يبالي هو ما يكون من أمر، مادام الإخلاص للإسلام هو رائده فيما يأخذ وما يدع من الأمور! ويروى لهم أن عيسى عليه السلام سأله أحد الحواريين ما هو الإخلاص ومن المخلص فقال عليه السلام: "المخلص من إذا عمل خيرا لا يهمه أن يحمده الناس".

عاد ابن حزم يدعو إلى المرتضى عبد الرحمن بن محمد، حتى اجتمع للمرتضى جيش يصلح للزحف، فقرر أن يزحف إلى غرناطة فيستولي عليها، ويجيش من أهلها عسكرا كثيفا يستولي به على قرطبة التي أمتنع فيها العلويون.

وسار ابن حزم مع الجيش تحت راية المرتضى ولكن الجيش لم يصل إلى غرناطة. فقد اغتيل المرتضى وهزم جيشه، ووقع ابن حزم في الأسر! وبعد حين أطلق من الأسر، فاختار أن يعود إلى قرطبة ليتفرغ للعلم بعد أن غاب عنها نحو ستة أعوام.

هاهو ذا من جديد في قرطبة مدينته التي لم يحب ركنا آخر من الأرض كما أحبها، والتي عرف فيها عذوبة أيام الصبا، ثم قسوة الحياة منذ عزل أبوه، ومات، وشاهد طرقاتها الظليلة ومتنزهاتها الغناء يختلط فيها دم الإنسان بالمعرة والأوحال! ولكنها مهما يكن من أمر، خير المدائن عنده، ومهما يكن ما حدث فيها للفكر والمعرفة، فمازالت هي هي أزخر بلاد الدنيا بالمعارف ومهما يكن ما حدث لخزائن الكتب فيها، وللفقهاء والعلماء، فإنه يستطيع أن يجد فيها من الكتب ومن البيئة الثقافية ما لن يجده فيما عداها من أرض الله.

منذ وقع ابن حزم وهو في بلنسية على كتاب للفقيه داود بن علي الأصبهاني، وهو حريص على أن يستزيد من فقه الرجل.

ووجد في قرطبة كل كتب داود الأصبهاني. التي تضمنت منهجه في الاعتماد على النصوص من القرآن والسنة وإجماع الصحابة في استنباط الأحكام.

وداود الأصبهاني من مدينة أصبهان تعلم فيها ورحل إلى بغداد وغيرها من حواضر الإسلام، ولد عام 202 هـ وعاش خمسين عاما تفقه فيها على مذهب الشافعي، ولكنه رفض وخالف الشافعي في الاجتهاد وهو الاعتماد على النص، أو القياس على النص. وقال: "إن الشريعة لا رأي فيها ولا اجتهاد، فهي نصوص فحسب، ولا علم في الإسلام إلا من النص". وقد سأله أحد الذين يعرفون إعجابه بالشافعي: "كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟! "فأجاب: "أخذت أدلة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس.." وقيل عنه: "أنه أول من أظهر انتحال الظاهر، ونفى القياس في الأحكام قولا واضطر إليه فعلا وسماه الدليل" .. والدليل الذي يعنيه داود مفهوم من ظاهر النص كأنه يقول الحديث الشريف. "كل مسكر خمر. وكل خمر حرام". فهما مقدمتان دون ذكر النتيجة والنتيجة المحذوفة المفهومة من ظاهر النص، أن كل مسكر حرام. وهذا ليس قياسا، بل فهم لظاهر نص فيه إيجاز بالحذف. وكأنه بقول الله تعالى: "قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف." فهذا شرط للمغفرة، وهو يعم كل من يعصي الله والرسول لا الكفرة وحدهم.

قال عنه أحد معاصريه: "لو اقتصر على ما هو فيه من العلم لظننت أنه يكمد به أهل البدع مما عنده من البيان والأدلة. ولكنه تعدى.

وكان زاهدا عابدا. ولقد وجه إليه أحد المعجبين من الحكام يوما بألف درهم تعينه على العيش فردها قائلاً لمن جاء بها: "قل لمن أرسلك بأي عين رأيتني، وما الذي بلغك من حاجتي وخلتني حتى وجهت إلى بهذا؟".

وقد وجد ابن حزم في قرطبة حين عاد إليها هذه المرة بعض الذين تأثروا بآراء داود، ووسعوا منهجه الظاهري، وتركوا كتبهم في خزائن الكتب بقرطبة، وفي صدور بعض اتباعهم، فدرس ابن حزم كتبهم وتتلمذ عليهم .. وخلال خمس سنوات وهب فيها نفسه للعلم، ودراسة الفقه الظاهري، لم يعد الشاب يفكر في السياسة. وأعلن الخلاف مع الشافعي متابعا فقه أهل الظاهر وقيل لي في خلافه مع الشافعي بعد أن أحبه وأعجب به، فاستشهد بما قاله الإمام الشافعي حين عوتب على خلافه مع الإمام مالك وهو شيخه: "أقول في هذا ما قاله أرسطو حين خالف أفلاطون: أستاذي وأنا أحبه ولكن الحقيقة أحب إلى من أفلاطون."

وتمر الأعوام وابن حزم لا يشغله إلا الدرس الجاد.

ووجد بعض المتعصبين من اليهود والنصارى يطعنون في الإسلام مستغلين الضمور الفكري والفقهي، وشيوع التقليد، وتجمد العقل، فانبرى لهم ابن حزم يجادلهم، ويسفه آراءهم، في حدة وعنف، مؤكدا أن ما اعترى الحياة الإسلامية من فساد وبلادة، وما يشيع فيها من جمود فكري، وتقليد أعمى للسلف، ليس من الإسلام. ولكنه محنة للإسلام.

ولهو يعد نفسه لمعارك فكرية أخرى يجلو فيها حقائق الإسلام كما هي في أصلها الثابت من ظاهر النصوص وإجماع الصحابة .. ولهو سعيد بتفرغه للعلم، يكتب النثر الفني والشعر، ويناقش آراء أرسطو في المنطق، وفتاوى الفقهاء المقلدين .. ولهو ينضج على نار التأملات، والقراءات الجادة المتصلة بمنهجه في الفقه .. ولهو مستغرق مستوعب في العلم .. إذ بالسياسة تفرض نفسها عليه مرة أخرى، وتقتحم بابه في عنف، وتنتزعه انتزاعا من تأملاته وقراءاته وكتاباته ومناظراته ..

كان قد سئم السياسة فتركها، وظل يرقب بألم ما يضيق به صدره ولا ينطلق به لسانه: تناحر الأمراء على السلطة، وفتك بعضهم ببعض، وهم خلال هذا الصراع قد وطأوا أكناف قرطبة وهامتها لسنابك خيل الفرنجة "فلحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم."

إنه متعب من السياسة وأهل السياسة .. متعب من الأصدقاء .. متعب من الحياة .. متعب من كل شيء .. ولا راحة له إلا في العلم والكتابة..!

فقد رأى فيما رأى: هشام المؤيد الأموي الذي استوزر أباه، يعزل، ثم يختفي، ثم يظهر، ثم يتولى الأمر..
لكم فجمع ابن حزم في هشام هذا بعد أن تعود احترامه وأشرب حبه منذ الصغر!. ذلك أن المؤيد هذا، تولى الخلافة من جديد وأصبح أمير المؤمنين، فناوأه أمير أخر من بني عمومته، وزحف بجنده، فاستنصر هشام بالفرنجة وعرض أن ينزل لهم عن قشتالة.! .. ونصره الفرنجة بهذا الثمن، ولكن مناوئه غلبه على قرطبة وأسقطه، ثم قتله .. واستعان هو الآخر بالفرنجة ليوطد أركان ملكه!

غير أن السنوات تمر، والانقلابات تستمر، وتتوالى التغيرات فلا يستطيع العقل أن يلاحقها .. وهاهو ذا يستقر في قرطبة من جديد، ولكن تحت حكم العلويين من آل حمود الذي أسقطوا حكم الأمويين.

وتمضي الحياة وهو سعيد بنشاطه العلمي وهمومه الفكرية ..

هدأ ابن حزم عن السياسة، ولكن أهل قرطبة لم يهدأوا .. فثاروا على حاكمهم العلوي واختاروا واحدا من بني أمية ليولوه الخلافة مكان الخليفة العلوي .. وهو حفيد آخر للخليفة العظيم عبد الرحمن الناصر .. صاحب قرطبة في زمن البطولات والشموخ.!

كان ابن حزم قد بلغ الثانية والثلاثين من العمر، وحين رأى إصرار أهل قرطبة على تولية حفيد آخر لرجل العصر الذهبي عبد الرحمن الناصر، أنضم إليهم، فما كان بوسعه أن يسكت.!!

مرة أخرى تغزو قلبه الأشواق إلى بناء الأندلس من جديد واستعادة الأيام الرائعة الغابرة .. فترك تأملاته وكتبه ومناظراته وقلمه وانضم للثائرين!..

وعزل أهل قرطبة الخليفة العلوي، وولوا مكانه عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار حفيد الناصر. ولم يكد يتولى حتى عين ابن حزم وزيرا له.

ولكن الخليفة الجديد لم يكن يملك من المواهب شيئاً ولم تكن له ميزة تؤهله لأن يكون أمير المؤمنين .. إلا أنه حفيد عبد الرحمن الناصر! كان شابا في نحو الثالثة والعشرين، غريرا، ساقط الهمة، سيطرت عليه النساء وأهل الدسائس .. وكان إلى ذلك طائشا يأخذ بالظن، مزهوا بشبابه وثرائه، مفتونا بالسلطة .. فلم يكد يستقر على عرش قرطبة، حتى شك في جماعة من الذين حملوه إلى العرش وهم من أهل المشورة والرأي والحكمة في الأندلس، وكافأهم على ما بذلوه من أجله بعزلهم وإقصائهم وإلقاء بعضهم في غيابات السجود، واتهمهم بالتآمر عليه ليولوا مكانه أمويا آخر وأظهر بدلا منهم عددا من الرقعاء وأهل الشذوذ وأصحاب السمعة السيئة!!

ولم ينتصح بنصيحة أحد، فقد أقنعته شكوكه وأقنعته بطانته أن كل من يعارضه يريد أن يسقطه، ويفاضل عليه أحد أبناء عمومته من الأمويين وثارت قرطبة من جديد وأخرت قادتها من السجن عنوة، وزحف الثائرون على قصر الخليفة فانتزعوه منه وقتلوه .. ولم يكن قد مر على ولايته أكثر من شهرين..!

وداست أقدام الثائرين ابن حزم وزير الخليفة المخلوع .. واتهموه بأنه سكت على المظالم، فألقوا به في السجن ولبث في السجن عدة أشهر.

ثم راجع الثوار أنفسهم وفحصوا أعمال ابن حزم خلال ولاية الخليفة المقتول، فلم يثبتوا على ابن حزم الموافقة على الفساد أو المظالم، وثبت لهم أنه كان عاجزا .. كان وزيرا لا يؤخذ برأيه، ولقد حاول أن يعتزل، ولكنه خاف طغيان الخليفة .. فقضى الشهرين وزيرا يتحمل الوزر بلا غنم..

خرج ابن حزم من السجن وفي عزمه ألا يتعاطى السياسة أبدا وأن يهب عمره كله للكتابة .. وعاد إلى العمل .. يقرأ ويكتب ويناظر..

ولكنه لم يكد يتفرغ لعمله أربع سنوات حتى ظهر رجل آخر أموي اسمه هشام من أحفاد عبد الرحمن الناصر.
هشام آخر!! وهو مرة أخرى من أحفاد الخليفة الذهبي العظيم!! .. ما أكثر ما تسخر الحياة بابن حزم الباحث عن الهدوء!

مرة أخرى يترك القلم والورق والمناظرة وينضم إلى الثوار!

ونظر هشام المعتد بالله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر فيمن حوله من الرجال، فاختار ابن حزم وزيرا.

ولكنه الخليفة الجديد كان هو الآخر مخيبا للظنون، فلم يحقق شيئاً مما عقده الناس عليه من آمال، وشغله الصراع مع بني عمومته والأمراء الآخرين، وازدادت الدولة ضعفا، وصح فيها قول كبير الفرنجة أيام الفتح الإسلامي: لا تقاوموا الفاتحين فهم يتحركون بروح الفداء ويزحفون بالحرص على الاستشهاد وطمعا في نعيم الآخرة، وبإيمان جائح يستطيع أن يقتحم كل الصعاب .. ولكن انتظروا حتى يشغلوا بالمال والسلطة، ويتنازعوا على الحكم، وحينئذ يستطيع الفرنجة أن يستردوا الأندلس.

وفي الحق أن العرب حين نزلوا أرض الأندلس، بعزم، وجسارة قلب، وإدارة لا تقهر، اجتاحوا الأندلس بمثل طاقات المد، فهي لا تتوقف ولا يقاومها أحد بعد. وكانوا قد أحرقوا السفن من ورائهم، فما إلى فرار من سبيل، ولا محيص .. فإما الشهادة أو النصر!

ولكن نبوءة كبير الفرنجة تحققت، فتدهورت الأمور وتمزقت الدولة حتى أصبحت حراب الفرنجة تسند عرش أمير المؤمنين.!

على أن قرطبة ثارت على أمير المؤمنين هشام المعتد بالله، وأسقطته وأسقطت معه الدولة الأموية كلها، فلم تقم قائمة لها إلى الأبد .. وتولى بدلا من الأمويين ملوك الطوائف .. وقسموا إمارات الأندلس فيما بينهم، واختفي الخليفة المخلوع في أحد الثغور حتى مات بعد ست سنوات من خلعه.

أما ابن حزم، فلم يبق وزيرا حتى سقط الحكم الأموي، بل اعتزل المنصب حين تأكد له أنه لن يستطيع أن يحقق شيئا للدولة مما عاش يحلم به، إذ استيقن أن حفيد عبد الرحمن الناصر هزيل لا رجاء فيه.

ما ضعف ابن حزم أمام السياسة، وما حقق من خلالها شيئا ينفع الناس!؟ لقد وجدها أداة فاسدة التعبير، فليبحث إذن عن أداة أصلح!

ووجد في الكتابة التعبير عن أشواقه في إصلاح أمور الأمة، والنهوض بأحوال المسلمين، وعزم للقلب المعذب. وأنه ليشعر في أغوار نفسه أن جهاده بالفكر والقلم كالجهاد في سبيل الله بالسيف والمال .. ولكن في أي أرض يختار معركته.! ..؟

لم يشأ أن يحيا في قرطبة تحت ظلال حكم ملوك الطوائف .. فتركها وطاف بالأندلس، يجمع من حوله طلاب العلم فيلقي عليهم الدروس ويناظرهم، ويفرغ لنفسه يقرأ ويتأمل ويكتب. كانت له ضياع في أكثر من مكان في ريف الأندلس فكان يقيم في المدن القريبة من هذه الضياع، ثم يطوف بالعاملين في الأرض يتأمل أحوالهم ..

وهاله ما هم فيه من شقاء ..! وإنهم ليدفعون إيجارا باهظا للأرض، ولا يبقى ما يكفيهم للعيش بعد أداء الأجرة للملاك!! .. والملاك يحصلون على هذه الأموال الطائلة ويبنون القصور ويقتنون الجواري الحسان ويعيشون حياة فارغة من البطالة واللهو..!

وفكر ابن حزم في القاعدة الشرعية التي عليها هذا النظام، وعاد يقرأ النصوص في القرآن والسنة من جديد، وتتبع الآثار وأخبار الصحابة، حتى انتهى به النظر إلى أن نظام الإيجار في الأرض الزراعية حرام، فقد جرت السنة على المزارعة: يأخذ المالك نصف الإيراد أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو قل من ذلك والباقي يحصل عيه الزراع .. هكذا فعل الرسول "ص" بأهل خيبر .إذ زارعهم مناصفة.

وأعلن هذا الرأي فقامت عليه القيامة .. وأسرع كبار الملاك إلى الفقهاء يلتمسون منهم دفع البلاء الذي سينجم عن رأي ابن حزم ...

واجمع الفقهاء على أن ابن حزم يحرف في الدين، فهو يبتدع رأيا يخالف به كل الأئمة أصحاب المذاهب: مالك بن أنس، وأبي حنيفة النعمان والشافعي، واحمد بن حنبل، بل أنه ليخالف ما جرى عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان .. ثم إنه يناقض حتى شيخه الفقيه الذي نقل عنه استنباط الأحكام من ظاهر النص إلى الإجماع وهو داود الأصبهاني، إمام أهل الظاهر الذي أخذ عنه ابن حزم كل الأصول والفروع في الفقه.
لقد أتى ابن حزم إذن بما لم يقل به الأوائل .. وأنها لكبيرة أراد بها إثارة الفتنة بين الزراع وأصحاب المزارع .. فما ينبغي للحكام أن يتركوه يحدث من البدع أكثر مما أحدث..!

واتهم ابن حزم مخالفيه بالجهل وقال أن فقيها عظيما هو إمام أهل مصر الليث بن سعد قد نادى بهذا الرأي منذ أكثر من قرنين، وكانت له ضياع كثيرة، لم يؤجرها منذ اهتدى إلى هذا الرأي، بل كان ينتفع بها بالمزارعة، وكان يجعل معظم ما يحصل عليه في صرر ويجلس أيام الحصاد أمام باب داره في الفسطاط بجوار جامع عمرو، فيوزع الصرر على الفقراء والمساكين وذوي القربى كل واحد صرة أو أكثر من الصرر ويرسل بعضها خفية إلى أصحاب الحاجات من أهل العلم.: معلمين وطلابا..!

ولم يتهم أحد من الفقهاء الإمام الليث بأنه يثير الفتنة ، وحين عارضه بعض فقهاء عصره ممن يعيشون في ظروف اجتماعية مختلفة قال: "نحن أهل مصر والنوبة أدرى بأحوالنا من سوانا"!

لم يشغب أحد على الإمام الليث لأنه رأى قصر استثمار الأرض الزراعية على المزارعة، ولذلك لم يتوقف كثيرا ليدافع عن رأيه وليطنب في تقليله وتسبيبه! .. وكان كل ما لقيه الإمام الليث من خصوصية فيما بعد، هو إهمال أثاره ومؤلفاته ثم طمسها بعد موته، حتى لقد تحسر الإمام الشافعي على ضياع هذه الآثار النفسية، فوقف على قبر الليث وبكى .. ثم قال: "إنه أفقه من مالك، ولكن أهل مصر أضاعوه وتلاميذه لم يقوموا به"!!
فما بال فقهاء عصر ابن حزم يتهمونه بالزيغ، والبدعة..؟! وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار..!
إنه ليخرج على مذاهب الأئمة الأربعة الكبار، وبصفة خاصة مذهب الإمام مالك الذي جرى على أحكامه القضاء في المغرب والأندلس، ومذهب الإمام أبي حنيفة الذي جرى عليه القضاء في المشرق، فهما قطبان تدور عليهما الشريعة والفتيا، .. وهذه كبيرة عند المقلدين!!

واستنفر هذا الاتهام ابن حزم إلا أنه يخالف مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة مبتدع من أهل النار!؟

ورد على متهميه بهجوم عنيف على متبعي المذهبين، قبل أن يبدأ في توضيح رأيه في المزارعة والإجارة ..
قال: إنه يفتي من السنة، فالمزارعة هي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لم يؤجر أرض خيبر حين فتحها الله عليه، وإنما تركها مزارعة بالنصف لزراعها، وكانوا هم يهود خيبر، ثم مضى يقول: "فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأنه لم يأمرنا قط باتباعهما. فمتبعهما مخالف لله تعلى. وإن كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة. وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله .. قال معاوية لابن عباس: (أنت على ملة ابن عمك علي، قال: لا. ولا على ملة عثمان. أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم) .. وقالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: (نريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب. فقال عمر بن عبد العزيز: ) (قاتلهم الله، والله ما أردت دون رسول الله إماما) ..

روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء"

وأنذر عليه السلام بدروس العلم (أي اضمحلاله) وظهور الجهل (أي تفوقه) .

ثم يضيف ابن حزم ساخرا: "فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات!"

ثم يستطرد ابن حزم " .. ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله. والذي درس هو اتباع القرآن والسنة فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون جعلنا الله منهم، ولا عدا بنا منهم .. وأما ولايتهم القضاء فهذه أخرى وأندم، وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة، ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة. وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة والعتاة من بني العباس (في الشرق) وبني مروان (في الغرب) بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء، وعودة الخلافة ملكا عضوضا، وابتزازا للأمة .. فهؤلاء القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحبين لسنن الجور والمكر "وأنواع من الربا والرشوة"، وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام. وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي (يشير إلى محنة خلق القرآن التي جلد وعذب فيها الإمام احمد بن حنبل) .. فمثل هؤلاء لا يكترث بهم، وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف (تلميذ أبي حنيفة) على هارون الرشيد (في بغداد) وتغلب يحيى (من اتباع مالك) على عبد الرحمن بن الحكم (في قرطبة) فلم يقلد القضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان. والناس حراص على الدنيا، فتتلمذ لهما الجمهور لا تدينا، ولكن طلبا للدنيا".
ثم يمضي في دحضه آراء المتمسكين بالمذاهب فيقول: "ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف، وفي مناديح رحبة (جمع مندوحة) عن هذا التعسف، بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه".

وقال عن خصومه أنهم أحد رجلين: إما رجل لا يعلم السنة فهو جاهل، أو رجل علمها، وتركها إلى أقوال الأئمة أصحاب المذاهب فهو يخالف أوامر الله ورسوله. وكلا الرجلين فاسد الرأي ساقط الفتيا " ولا يحق له أصلا أن ينتحل العلم أو الفقه".

ويسوق ابن حزم بعد هذا حجته الدامغة من السنة بأسانيدها الصحاح الثابتة:

ـ عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإن أبى فليمسك أرضه ).

عن نقل متواتر موجب للعلم المتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض. وعن نقل أخر متواتر إنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجرة.

ـ من النقل المتواتر: "أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها. ولهم شطر ما يخرج منها" وشطر ما يخرج منها أي نصفه. ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصف ثمرها، ويروي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد إجلاء اليهود عنها فسألوه أن يقرهم بها على أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نقركم بها على ذلك ما شئنا"

فقروا بها حتى أجلاهم عمر بن الخطاب..

ولم يسكت مخالفوه من الفقهاء والعلماء فردوا عليه الاتهام بالجهل ومخالفة الله ورسوله، واتهموه بقصور الفهم، إذ لم يفهم أن صلى الله عليه وسلم حرم إجارة الأرض بحكم خاص لا يجوز تعميمه، لأنه كان بشأن واقعة معينة، وهذا هو عين ما فهمه أصحاب المذاهب من الأئمة الكبار. فقد اقتتل رجلان على إجارة أرض زراعية .

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع"

أي لا تؤجروها فهو لم ينه عن مسلمان، فرد عليهم أن هذا يمكن أن ينطبق على المزارعة أيضاً، فقد يؤدي النزاع فيها إلى اقتتال مسلمين! .. ولكنهم أيدوا رأيهم في إباحة الإجازة بما قاله سعد بن أبي وقاص: "أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض بالذهب والورق".

ولكن ابن حزم رد قولهم عليهم، بالطعن في قوة السند الذي روى الحديث الوارد في واقعة الاقتتال، والخبر المنقول عن سعد بن أبي وقاص، وذهب إلى أنه حتى لو صح الأثران، فما يجوز العدول عن السنة الثابتة إلى خبر يرويه صحابي واحد مهما يكن خطر شأنه.! واتهمهم بأنهم بإباحة الأجر إنما يظلمون الزراع ويحابون الملاك! بأن يؤدي الزارع التزامه ويسلم المالك الأجرة المتفق عليها كاملة، مهما يقل الإنتاج، أو حتى إن لم تنتج الأرض أصلا. وهذا هو الظلم بعينه، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ }( فصلت ،الآية : 46 )

واستخلص النتيجة في حسم: "لا تجوز إجارة الأراضي أصلا لا لحرث فيها ولا للغرس فيها ولا للبناء فيها ولا شيء من الأشياء أصلا، لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة، ولا بغير مدة مسماة، لا بدنانير ولا بدراهم، ولا بشيء أصلا، فمتى وقع فسخ أبدا، ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها. أو المغارسة كذلك فقط، فإن كان فيها بناء قل أو أكثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعا لذلك البناء غير داخلة في الإجارة أصلا .. ثم يكرر "لا يجوز كراء الأرض بشيء أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بعرض ولا بطعام مسمى ولا بشيء أصلا" .. فهو يعتبر إجارة الأرض بأي مقابل حراما" .. ويضيف "ولا يحل قي زرع الأرض إلا أحد ثلاثة أوجه: إما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، وإما أن يبيح لغيره زرعها ولا يأخذ منها شيئاً، فإن اشتركا في الآلة والحيوان والأعوان دون أن يأخذ من الأرض كراء فحسن، وأما أن يعطي أرضه لمن يزرعها ببذرة وحيوانه وأعوانه وآلته بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى مسمى إما النصف أو الثلث أو الربع، ونحو ذلك، أكثر أو أقل. ولا يشترط على صاحب الأرض شيء من كل ذلك. ويكون الباقي للزراع قل ما أصاب أو كثر. فمن أبى فليمسك أرضه" .. ثم يقول أن عقد المزارعة ليس له أجل "لأنه لم يوجبه نص ولا إجماع فهو شرط ليس في كتب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم .. وليس لأحد أن يوجب ولا يحلل إلا بنص ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى وشرع من الدين ما لم يأذن به الله. قال الله تعالى: { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ }( النجم ، الآية : 24 )

أما إجارته التعاقد في المزارعة على ما دون النصف على خلاف فعل الرسول فهو ليس خروجا على السنة أو قياسا عليها .. ويقول "إن حكم سائر الأجزاء كحكم النصف فإذا كان النصف حلالا، فسائر الأجزاء حلال، وهذا برهان ضروري متيقن لا يجوز خلافه .. فإن المتعاقدين على النصف قد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك النصف".
وجرى في المساقاة على رأيه في المزارعة. فأفتى بأن إيجار الماء لسقي الزرع لا يجوز. ولا يجوز شراؤه للوضوء أو الشرب.

لم يقتنع بهذه الآراء أحد من الفقهاء أو كبار ملاك الأرض الزراعية، ولكنها بهرت شباب العصر المخلصين، المتطلعين إلى العدل، فالتفوا حوله أينما اتجه

وحماه تجمعهم حوله، من فتك بعض أعدائه به .. فقد كادوا له عند أمراء الولايات التي طاف أو يطوف بها، وحرض عليه كبار الملاك والفقهاء المخالفون، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منه، فقد وجد الحماية في حصن حصين من إعجاب الشباب والزراع والفلاحين به، والتفافهم من حوله في جولاته بريف الأندلس .. وخشي الأمراء أن يبطشوا به، فتنفجر الثورة عليهم .. ولكنهم ضايقوه وضيقوا عليه، فأخذوا يقتطعون من أملاكه، ويصادرون بعض أراضيه، حتى اضطر إلى الرحيل عن الأندلس كله، بعد أن طاف بمعظم ريفه ومدنه والجزر التابعة له. إلى حاضرة أخرى من حواضر الفقه والفكر يشد الرحال ويركب البحر ..

إلى الجزر الشرقية بالقرب من المغرب، حيث تسربت كتب نادرة من خزائن قرطبة بعد نهبها، وحيث يعيش عدد من فقهاء الأندلس ممن هاجروا في الأرض بعد فساد الأمر في الأندلس، وبعد أن طفا الزبد، وذهب ما ينفع الناس.!
وفي جزيرة أندلسية صغيرة على مقربة من المغرب التقى بكثير من العلماء والفقهاء والمفكرين من أهل المغرب، وبقصادها من علماء المشرق.

وهناك استمع إلى الفقهاء وناظرهم وناظروه وجلس إليه طلاب العلم. ولكنه لم ينس قرطبة، ففي قلبه حنين متوقد! وإن نفسه لتتمزق حسرات..!

كتب إلى صديق له بالأندلس: "أنت تعلم أن ذهني منقلب، وبالي مضطرب بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وفساد الأحوال، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد، واليأس من الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعه افضل ما عودنا. وأن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم مما تحيف، ومواهبه المحيطة بنا، ونعمه التي غمرتنا لا تحد ولا يؤدي شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه وإليه منقلبنا، وكل عارية راجعة إلى معيرها وله الحمد أولا وأخرا".

ولقد حاول أمير القيروان أن يصله ببعض الهدايا والمال، وتقديرا له ولكن ابن حزم رفض، وكان يرفض عطايا الأمراء بعد بني أمية، ثم إنه على الرغم مما فقده لم يكن في حاجة، وأنه ليشعر في أغوار نفسه أنه فوق الأمراء والوزراء لأنه كاتب وفقيه ومفكر.

ولم يكن ابن حزم يأبى على غيره أن يقبل الهدايا من السلطان، وكان يعجب لمن يتعففون عنها بشبهة أن الحرام داخلها بغصب أو نحوه، وهم في ذات الوقت يسكتون عن المحرمات التي يقترفها الأمراء كالعضب والفساد والإفساد وما إلى ذلك؟ ...

كان يهزأ بهم ويزري عليهم إذ ينأون بأنفسهم عن الشبهات، وهم يستبيحون المحرمات. ويغرقون فيها إلى الأذقان! .. وشبههم بالذين سألوا عبد الله بن عمر عن المحرم في الحج أو العمرة أمحل له أن يقتل حشرات الفراش؟ فسألهم ابن عمر: "من أنتم؟" فقالوا من "الكوفة" فقال لهم "قاتلكم الله. تسألون عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله عنهما!؟
استقر ابن حزم على مكانه الجديد سنوات، لم ينقطع فيها عن القراءة والكتابة، على الرغم من أنه كان ينفق وقتا طويلا في مناظرة الفقهاء والجلوس في الحلقات ليتلقى عنه طلاب العلم في إعجاب به شديد في المدن الصغيرة التي تقع في أطراف الأندلس على مقربة من المغرب.

وعلى الرغم من بعده عن عواصم الأندلس لم يهدأ عنه مخالفوه من الفقهاء هناك، إذا استمر على منهجه من نبذ المذاهب الأربعة، ومهاجمة أتباعها ومقلدي الأئمة الكبار، وازداد عنفا على مخالفيه، واشتد في وجوب الاعتماد على النصوص وحدها، وهاجم الذين يعتمدون على الرأي إن لم يوجد نص.

وقادته حماسته للمنهج الظاهري ورفضه للقياس وللاجتهاد بالرأي إلى الوقوع في التناقض. ذلك أنه كان يرى أن الحكم إذا لم يوجد في النص أو في إجماع الصحابة فهو على استصحاب الحال .. أي على الإباحة لأن الله تعالى قال: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .

فكل ما في الأرض مباح لبني آدم، إلا ما حرمه الله تعالى بنص في القرآن أو السنة النبوية. وتفهم النصوص بظاهرها ولكل إنسان حق فهمها ..

التزم ابن حزم هذا المنهج التزاما صارما شجع به غير أولي العلم على الفتيا، فتجاسر بعضهم على الشريعة، واشتطوا في ذلك، فخالفوا بسوء فهم نصوص القرآن والسنة وإجماع الصحابة، على نقيض ما أراد ابن حزم.

ثم أن ابن حزم نفسه في رفضه القياس وأدوات الرأي الأخرى لاستنباط الأحكام فيما لم يرد به نص ولم ينعقد عليه إجماع .. ابن حزم في منهجه هذا وقع في غرائب.

ذلك أن الفقهاء الآخرين عللوا الأحكام وفهموا أسبابها، فألحقوا الوقائع الجديدة في الحكم عليها، بما أوردته النصوص، إذا اتحدت العلة وتماثلت الحالات .. أما ابن حزم فهو يرى أن الشريعة غير معللة ولا مسببة إلا بنفسها، وإلا إذا وردت العلل والأسباب في نصوصها.

ومن الغرائب التي وقع فيها:

اجمع الفقهاء على نجاسة الخنزير ولعابه قياسا على نجاسة لعاب الكلب، ولكنه خالفهم جميعا لأن النص لم يرد على الخنزير، ولا حرام ولا حلال إلا بنص، فسؤر الخنزير إذن طاهر.

وبول الإنسان ينجس الماء لأنه حكم بنص، وقياس الكلب بالخنزير وسائر الحيوان خطأ .. فبولها لا ينجس الماء لأنه لا نص ولا إجماع.!

وأباح لغير المتوضئ بل وللجنب والحائض والنفساء مس المصحف والقراءة فيه. وهو في هذا كله يأخذ بآراء شيخ أهل الظاهر داود الأصبهاني الذي قال أنه لا نص يمنع هؤلاء من القراءة في المصحف.
واعتبر العمرة فرضا كالحج، وركنا من أركان الإسلام لقوله تعالى: "وأتموا الحج والعمرة لله".

وقال أن الزواج واجب وفرض شرعي على كل من هو قادر على النفقة والعدل مع زوجه، وذلك بنص الحديث الشريف عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) من استطاع منكم الباءة فليتزوج ).

وهو في كل ما يأخذ وما يدع من أمور الدين لا يقبل مخالفة ويقسو على معارضيه ويتهمهم بالجهل، وقلة الدين، وارتكاب الأخطاء الشنيعة."!

وكان هذا الأسلوب في الجدل يوغر الصدور. وقد وصفه بعض أصدقائه: "أوتي العلم كله، ولكنه لم يؤت سياسة العلم".

وبدأ الذين ناظرهم في مهجره الجديد يضيقون به .. فلم تعد الحفاوة كما ألقها في أول سنوات قدومه.!!

ثم إنه لقي صديقا عزيزا قادما من قصبة الأندلس، ولابن حزم سبق فضل عليه، ولكن الصديق نسى الفضل السابق وتجافى ابن حزم. وحز هذا في نفسه وأدرك أن الحملة عليه من فقهاء الأندلس مع تغير الحال به، وغضب أمراء الأندلس عليه. كل ذلك أفسد عليه بعض المودات والقلوب، حتى قلب مثل هذا الصديق.!

ورأى ابن حزم أن يكشف للمسلمين حقيقة مهاجميه من فقهاء الأندلس عسى أن يبطل تأثيرهم على الآخرين فكتب: " .. قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه.
وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم. وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى بالديباج الذي هو الحرير المحض لحافا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس الحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق. وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من انحراف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه. شاهدنا هذا نحن منه عيانا، وعلى جمهور أهل البلد، إلى قبائح مستفيضة، لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها" ..

ثم يوجه حديثه إلى الناس كافة فيطالبهم من جديد بالاجتهاد لاستنباط الأحكام من النصوص، فهذا خير من التقليد "والمجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب. فهو في تقليده عاص الله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه .. وكل من عمل عملا بخلاف الله تعالى فهو باطل .. والمجتهد أعظم أجرا من المقلد المصيب وافضل، لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته، والمجتهد المخطئ مأجور باجتهاده غير آثم بخطئه. فأجر متيقن وسلامة مضمونة أضمن من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك.

وبهذا أغضب فقهاء الأندلس جميعا فكلهم مقلد للإمام مالك، ثم أنه ليتهمهم بالفسق والجهل ومخالفة الشريعة في حياتهم الخاصة وباقتراف المنكر والتزوير في فتاويهم.

وأغضب معهم فقهاء المغرب كله لأنهم هم أيضا مقلدون للإمام مالك .. وما منهم مجتهد واحد مخطئ أو مصيب!
واستعرت الحملة عليه في الأندلس، واتهمه فقهاؤها بالقذف في المحصنين والمحصنات، وطالبوا أمراءهم بإقامة الحد عليه.

وبنا به مهجره، واضطربت تحته أرض الجزر الأندلسية الشرقية التي اطمأن عليها سنوات، وزادت الجفوة بينه وبين فقهائها .. ولكن كيف العودة؟ وهم هنالك في المدن الكبرى يتربصون به ويترقبون عودته؟!

واعتزل الحياة والناس، والكتابة في الفقه، وانكب على قراءة اليونانيات والمعارف الأخرى وعاودته طبيعة التحدي فرفض منطق أرسطو! ولكن ابن حزم لم يحكم الحجة لاضطراب نفسه وقلقه مما يعاني .. وأتاح لمنافسيه أن يسخروا به لأنه يطاول أرسطو بغير دليل مقنع!

وخلال قراءته المتنوعة في المعارف الإنسانية قرأ أن جالينوس يفضل اللغة اليونانية على غيرها من اللغات ويقول أن سائر اللغات إنما تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع. ووقف ابن حزم عند رأي آخر يذهب إلى أن العربية هي "افضل اللغات لأنه نزل بها كلامه تعالى".

كتب ابن حزم يناقض أصحاب هذه الآراء: "وقد توهم قوم في لغتهم أنها افضل اللغات وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل إنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة، ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة، وقد قال تعالى:

{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ( إبراهيم ، الآية : 4 )

وقال تعالى:

{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }( الدخان ، الآية : 58 ) فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك .. ثم قال عن دعوى جالينوس أن لغة اليونان افضل اللغات "وهذا جهل شديد لأنه كل سامع لغة غير لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس" .. أي إما نباح كلاب أو نقيق ضفادع .. ثم استطرد: "إن الله قد كلم موسى عليه السلام بالعبرانية (وهي لغة موسى وقومه) ونزل الصحف على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالسريانية، فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا. أما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والإجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك. إلا أنه لابد من لغة يتكلمون بها ضرورة .. وقد أدعى البعض أن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة، واحتج بقول الله عز وجل

{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }..( يونس ، الآية : 10 ) .

 فقلت له: قل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص. ولأنهم قالوا: أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. ولأنهم قالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. ثم يستطرد: " .. وقد أدى هذا الوسواس الباطل باليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية، فلا يكتبون عليهم غيرها .. وفي هذا من السخف ما ترى. وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه. عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل".

وخلال اعتكافه في تلك المدينة الصغيرة في جزيرة نائية بأقصى شرق الأندلس على مقربة من المغرب كتب رسالة في أسماء الله الحسنى، وخرج بها على فقهاء الأندلس والمغرب، فأبدوا إعجابهم بها، وعجب سائر العلماء لابن حزم هذا: لحدة طبعه وعنفه، ولعمق فكره، وجمال أسلوبه وانفجار علمه وتدفقه .. وكرر أحدهم ما قاله صديق لابن حزم من قبل "هذا الرجل أوتي العلم كله"، ولكنه لم يؤت سياسة العلم فهو يصك مخالفيه صك الجندل للوجه." ورضى هو عن زوال الجفوة بينه وبين العلماء.

واستبد به الإصرار على التفرغ للكتابة في الفقه والأصول والأدب. ولهو يفكر في أي مسائل الفقه والأصول يبدأ، إذ برسالة تأتيه من صديق في الأندلس، فهي رسالة أسعدته حقا .. فهذا الصديق مرشح لمنصب أمير على إحدى مدائن الأندلس الكبرى، وهو يطلب ابن حزم أن يكف عن الكتابة في الفقه والأصول حتى تهدأ الثورة عنه في الأندلس، وحتى يرتب له أمر عودة كريمة هادئة في المدينة التي سيصبح أميرها .. واقترح الصديق على ابن حزم أن يكتب رسالة عن النساء والرجال والحب..!

فليكتب عن العشاق فهذا أروح لنفسه، وهو بلا ريب صارف عنه غضب الأمراء وتربص الفقهاء وكيد كبار الملاك في الأندلس.

أخذ ينتقل بحرية في مدن المغرب العربي، ويستحضر ذكرياته وما مر به من تجارب، وما حفظ من أخبار.

ثم عكف يكتب رسالته عن الرجال والنساء والحب وسماها "طوق الحمامة في الألفة والآلاف". وهي، رسالة عن أحوال المحبين وعلامات الحب وما يعرض فيه من وصل وهجر، واقتراف للمعصية، وتعفف عنها ..

وعلى أن ابن حزم لم ينس في أول كتابه "طوق الحمامة" ما يصنعه به مخالفوه من الفقهاء والعلماء فقال عنهم "وأساءوا العبث في وجهي. وقذفوني بأني أعضد الباطل بحجتي، عجزا منهم عن مقاومة ما أوردته من نصر الحق وأهله، وحسدا لي".

ولقد حذر ابن حزم في صدر كتابه طوق الحمامة، أن يظن أحد به ظن السوء، فيأثم بهذا الظن .. وبعض الظن إثم ..

ثم يشكر لصديقه ورده الصحيح. "وأنا لك على أضعافه" ويحمد له مشاركته إياه في الحلو والمر والسر والجهر ويستشهد بأبيات له:

أودك ودا ليس فيه غضاضة ومالي غير الود منك إرادة

هباء، وسكان البلاد ذباب وبعض مودات الرجال سراب ولا في سواه لي إليك خطاب إذا حزته فالأرض جمعاء والورى .

ثم يقول: وكلفتني أعزك الله أن أصنف لك رسالة في صفة الحب، ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة، ولا متزيدا ولا مفننا، ولكن موردا لما يحضرني عن وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسعة باعي فيما أذكره .. والأولى بنا مع قصر أعمارنا ألا نصرفها إلا فيما نرجو به رحب المنقلب وحسن المآب غدا. ثم يستطرد كأنه يعتذر عما سيورد من أخبار العشاق فيذكر ما جاء به الآثار: "اجمعوا النفوس بشيء من الباطل ليكون عونا لها على الحق" واجمعوا النفوس أي احملوها على الاستجمام. و"من لم يحسن يتفتى لم يحسن يتقوى" ويتفى يكون فتى في مرحه .. و"اريحوا النفوس فإنها تصدأ كما يصدأ الحديد".

ثم مضى يقول: إنه يكتب عما شاهده وعاينه وما حدث به الثقات من أهل زمانه خلال تجربة طويلة عرف فيها الحياة وعرف الناس.

وبكتابة "طوق الحمامة في الألفة والآلاف "وأسلوبه الذي يعتبر من أرقى أساليب النثر الفني صح أن يطلق عليه "أديب الفقهاء".

ومن عجب أن ابن حزم في كتابته عن خلجات النفس، لم يقف عند الظاهر كما ألزم نفسه في الفقه والأصول بظاهر النص، بل تعمق النفس البشرية، وزاوج بين الإسلام والفلسفة اليونانية، وأدرك خفايا الصبوات والنزعات.

ومن عجب أن ابن حزم أيضا وهو الإمام الفقيه الذي يتربص به الفقهاء من مخالفيه، قد كتب عن الحب والمحبين بعبارات لم يتحرج فيها من شيء. ولم يتحر تغطية الألفاظ التي ينبغي أن تغطى.

والأخبار التي رواها في "طوق الحمامة" مما شاهد وعاين أو سمع مع ثقات، تصور الحياة الاجتماعية في الأندلس، أصدق التصوير، وأعذبه أيضاً!

وفي طوق الحمامة فوق هذا رصد لبعض الوقائع الهامة في تاريخ الأندلس، وهي وقائع عاش في غمارها. ابن حزم .. والكتاب ينتهي بمواعظ تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتبين فضل الطاعة وقبح المعصية ..

غير أن ما يسترعي النظر في هذا الكتاب هو هذه الحياة الغربية التي كان يحياها الأثرياء من أهل الأندلس .. حتى لتكتب نساء الملوك والأمراء أشعار غزل فيمن يعشقن ولا يجدن إليهم سبيلا، وويل يومئذ للمعشوق إن عرفه أهل العاشقة!!

ومن عجائب الحب في ذلك العصر أن بعض قواد الجيش بذلوا حياتهم لا في ميادين المعارك مستشهدين، ولكن في مخادع نساء فروا إليهن بعد الهزيمة، فاكتشفهم العدو المنتصر فقتلهم وسبا النساء!!

وكتاب طوق الحمامة ظاهرة فريدة في تاريخ الأدب، فما كتب أحد من فقهاء أو علماء الإسلام كتابا أو فصلا أو مقالا في الحب بمثل هذه الروعة أو الصراحة، ولا بمثل هذا العمق في تحليل النفس.

وقد أراد ابن حزم أن يقول في هذا الكتاب أن علاقة الرجال بالنساء علاقات إنسانية، وضرورة من ضرورات الطبيعة، وفطرة، فما ينبغي أن يحجم العلماء والفقهاء عن تناولها، وإنما عليهم أن يبصروا بها الرجال والنساء، وما يحل لهم أو يحرم عليهم هذه العلاقة .. وهو يكرر القول أن الجد لا يصح إلا بشيء من المرح، فيجب ألا يعزف أحد عن المرح، فالمرح هو الذي يقوي النفس على مواجهة جد الأمور، وليس ثقل الظل من الدين في شيء، وقد كان الرسول يمزح، وكذلك الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وبدأ ابن حزم رسالته طوق الحمامة بالكلام في ماهية الحب بقوله: "الحب ـ عزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة ولا محظورا في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل "وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير" وذكر بعض أسماء الخلفاء العشاق في الأندلس .. واستطرد: "ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة ـ وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم، فلا ينبغي الإخبار به عنهم ـ لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل. ولكنه تحدث عن حب الصالحين، ومنهم أحد فقهاء المدينة السبعة.وذكر أن المحبة ضروب فأفضلها المتحابون في الله عز وجل، ثم محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر، ومحبة العشق الصحيح الممكن من النفس الذي لا فناء له إلا بالموت: "وإنك لتجد الإنسان السالي برغمه وذا السن المتناهية، إذا ذكرته تذكر وارتاح وصبا، واعتاده الطرب واهتاج له الحنين".

وعرف محبة العشق بأنها "استحسان روحاني وامتزاج نفساني .. وإنك لا تجد اثنين يتحابان إلا وبينهما مشاكلة، واتفاق في الصفات الطبيعية، وكلما كثرت الأشباه، زادت المجانسة وتأكدت المودة.

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكده: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف)
وقول روي عن أحد الصالحين: (أرواح المؤمنين تتعارف). ولهذا اغتم بقراط حين وصف له رجل من أهل النقصان بحبه فقيل له في ذلك فقال: "ما أحبني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه". ويمضي في الحديث عن "العلة التي توقع الحب" فيقول: "الظاهر أن النفس حسنة تولع بكل شيء حسن وتميل إليه، وتميل إلى التصاوير المتقنة .. فإن ميزت وراءها شيئا اتصلت وصحت المحبة الحقيقية. وإن لم تميز وراءها شيئا من أشكالها لم يتجاوز حبها الصورة وذلك هو الشهوة".

ثم يمضي في رسالته فيرسم ظاهر المجتمع الأندلسي وأعماقه، ويعلل تعلق الإنسان بشكل معين فيروي عن نفسه أنه أحب شقراء في صباه فظل يحب الشقراوات وهكذا كان أبوه، وعلى هذا سار الخلفاء والكبراء في الأندلس. ويكتب عن حب الفقهاء، وما فيه من طرائف .. ثم يصور ألوانا من الفحشاء يستعيذ بالله من شيوعها في قصور الكبراء والأثرياء، وفي الخمائل المتناثرة بالمدن الكبرى في الأندلس.

وكأن شيئا لم يكن يشغل الفئة الاجتماعية التي تحرك في إطارها ابن حزم إلا العشق والعلاقات الشاذة!.

ويعلل ابن حزم مظاهر الفساد التي غشت المجتمع الأندلسي. باختلاط الرجال والنساء بلا قيود، وإظهار النساء زينتهن وهن يعرضن للرجال، وفراغ بال النساء، فلا شيء يشغل المرأة الغنية في الأندلس على الإطلاق .. حتى أعمال المنزل كن لا يقمن بها فلديهن الجواري أو الصبيان!

وهو إذ يسوق أخبار الفحشاء في رسالته يستخلص منها العبرة، ويسوق النصيحة إلى الرجال القوامين على النساء، أن يسدوا أمامهن ذرائع المعصية. من البطالة وحضور مجالس السمر والانفراد بالرجال. ويقول في ذلك إن المرأة الصالحة إذا سدت أمامها ذرائع الفساد ظلت على صلاحها، أما الفاسدة فإذا سدت أمامها الذرائع تحايلت عليها لتمارس الفساد.!

وعلى الرغم من صور الفساد التي رسمها، فقد صور مظاهر العفة أيضا: كيف تصون فتاة نفسها على الرغم من الإغراء، وكيف يعف فتى تراوده امرأة ذات جاه وجمال وسلطة ونفوذ، ستؤذيه إن لم يطاوعها فيما تريد منه..!
وهو يروي ما شاهده من طرائف المحبين فقد شاهد فتاة في أحد المتنزهات تتبع فتى وتطارده وهو لا يكلمها .. حتى إذا غاب عنها انكفأت تقبل مواقع قدميه، والأرض التي مشى عليها..!

وكانت كل هذه المرائي وغيرها من ألوان المعاصي التي جهر بها الناس تثير سخط ابن حزم، وتستدعي همته لمقاومة الفساد بدءا بما شاهده في قصور العلية حيث كانت تضطرب حياته، إلى المتنزهات العامة حيث يتعاطى سائر الناس فنون العشق الحرام؟

وأنهى ابن حزم رسالته بإعلان سخطه على صور الفساد التي ساقها والتي ذكر أسماء بعض أبطالها وكتم البعض، وعلى صور أخرى أشار إليها ولم يكتب عنها لشدة فحشها كما يقول!

وفي أخر الرسالة كتب فصلا عن جزاء أهل الفساد وما ينتظرهم في الآخرة، وما يجب أن يعاقبوا به في الدنيا من نفي وجلد ورجم حتى الموت، وتحريق بيوتهم وأجسادهم. ودعا الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وهذا هو واجب المسلم، فإن لم ينهض به أثم.!

على أن هذا الوعظ كله لم يشفع لابن حزم، فقد هاجمه كثير من الفقهاء عندما ظهر كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" واتهموه أنه يحرض الشباب على المنكرات وعلى الفجور، وأنه بما ساق من أخبار يرسم لهم ويسهل عليهم اقتراف المنكرات! (واتهموه بأنه يهدر هيبة الفقهاء بما ذكر عن صور فسق بعضهم .. وهم أفراد منبوذون لم يعد أحد يسلكهم في زمرة الفقهاء.

لقد كتب عن فسق من كان عليه مدار الفتيا في قرطبة. أي مفتيها الأكبر .. وهو فقيه أسقطه فسقه وتبرأ منه الفقهاء والطلاب، وما ذكر ابن حزم ما كان من هذا الفقيه وأمثاله، إلا تشهيرا بالفقهاء كافة، وتحريضا للعامة على إهانتهم والازدراء بهم!!.

لم يكن الفقهاء المنحدرون من أصول عربية هم وحدهم الذين سخطوا على كتابه طوق الحمامة، بل أنكره البربر أيضا .. ذلك أنه قال عنهم: "في بلاد البربر التي تجاور أندلسنا يتعهد الفاسق على أنه إذا قضى وطره بمن أراد، أن يتوب إلى الله، فلا يمنع من ذلك. وينكرون على من تعرض له بكلمة (ليمنعه من المعصية) ويقولون له أتحرم رجلا مسلما من التوبة؟! لم يتقبل البربر هذه السخرية منهم، وكانوا يحكمون بعض إمارات الأندلس، ومنهم قواد لعسكر إمارات أخرى، فتوعدوا ابن حزم ...

ما باله وما بال قومه من عرب وبربر ممن يعيشون في الأندلس؟! إن هو كتب في الفقه كفروه، فإن كتب في الحب ارجفوا عليه وشهروا به وتوعدوه!! فيما عساه يكتب بعد؟ وإذن فليترك الحديث على الرجال والنساء، والحب، والفقه، والأصول! فليكتب في السياسة، وفي التاريخ ..

ونشر رأيه في الخلافة بعيدا عن شبهات الكتابة في الحب وأحواله والفقه وأصوله. اشترط أن يكون الخليفة قرشيا، ورجلا، وعاقلا، وعالما بشئون الحكم، وصالحا، لكي تصح له الخلافة أو الإمامة .. وقرر أن الخلافة ليست وراثية: "لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه لا يجوز التوارث فيها .. ولا في أنها لا تجوز لمن لم يبلغ .. ولا خلاف بين أحد في أنها لا تجوز لامرأة".

أما طريقة تولي الخلافة فهي أحد طرائق ثلاث: إما أن يعهد الإمام قبل وفاته إلى واحد يختاره إماما من بعده، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما فعل أبو بكر .. فتتم البيعة على الخليفة المختار.

وإما أن يعهد الخليفة الحي لرجال ثقات، أن يختاروا من بينهم واحدا، ثم تتم عليه البيعة، كما فعل عمر، إذ عهد إلى ستة من الصحابة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، لينتخبوا من بينهم رجلا.

وإما أن يتقدم رجل صالح كفء، يرى نفسه أهلا للخلافة، فيدعو إلى نفسه، ويبايعه الناس، فيجب اتباعه ومن يخرج عليه فهو من أهل البغي .. كما قال علي ابن أبي طالب فدعا لنفسه وبايعه الناس، فوجب اتباعه ..

وعلى أية حال فيجب ألا يبقى المسلمون أكثر من ليلتين بلا إمام. بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تصح الخلافة إلا بالبيعة الحرة.

وتناول ابن حزم موقف علي ومعاوية .. ثم أقدار الصحابة من الخلفاء الراشدين، والمفاضلة بينهم. وحسب رأيه كان يجب على معاوية اتباع علي، وعدم اتباعه بغي عليه، فمعاوية ومن معه إذن من أهل البغي ..!

ولكن ابن حزم لم يدن معاوية بالبغي على الإمام علي كما قضى بذلك الأئمة الذين تعرضوا لهذا الأمر من قبل، فاتخذوا أحكام البغاة من سلوك علي مع معاوية وجنده، واعتبروا علي بن أبي طالب، أول من ابتلى بأهل البغي، فما صنعه معهم أحكام يجب اتباعها شرعا .. بهذا أفتى الإمام الشافعي والإمام احمد بن حنبل ومن تابعهما.

لم يدن ابن حزم معاوية! ذلك أنه أموي بالولاء كما قلنا، متعصب لهذا الانتماء .. وهو مع ذلك لم يؤيده في الخروج ورفض البيعة للإمام علي. وفي رأي ابن حزم أن واقعة الجمل التي حارب فيها معاوية عليا، لم تكن حربا حقا، فلم يجتمع معاوية ومؤيدوه للحرب، بل اجتمعوا للتشاور. وكان الجند كثيفا في معسكر علي ومعسكر معاوية .. وتجادل الجند، فاشتبكوا دون أن يريدوا اقتتالا ..!

أما أهل صفين فقد أرادوا القتال حقا. وابن حزم لا يعفيهم من البغي، ولا يدينهم به، وإنما يترك أمرهم إلى الله تعالى.!

ويقوم ابن حزم مكانة علي بين الخلفاء الراشدين، فيجعله أخرهم مكانة. ويتحدث عن أهل البيت الذين وردت فيهم الآية فيستثنى منهم علي بن أبي طالب، ويفسر الآية بأنها تعني نساء النبي، ويفضل عليهن عائشة .. يفضلها عن خديجة وفاطمة الزهراء رضي الله عنهن جميعا. ويذهب إلى أن عائشة هي سيدة نساء أهل الجنة ..

ولم يكد ابن حزم ينشر هذه الآراء حتى زلزلت الأرض من تحته زلزالا عنيفا .. ذلك أن أبناء فاطمة كانوا قد أسسوا دولة إسلامية ضخمة، لتعيد الإسلام إلى عصوره الزاهرة، وهي دولة أسمها الدولة الفاطمية، أسسها الفاطميون في المغرب، ثم زحفوا إلى مصر فملكوها، وأنشأوا مدينة القاهرة، والأزهر الذي عمر منذ إنشائه بالشيوخ والطلاب، وارتفعت منارات القاهرة تضيء لما حولها، بعد أن خبت منائر بغداد وقرطبة .. وأصبح الأزهر بجهد علمائه وشيوخه وطلابه قلعة الإسلام في إحياء السنة، ومحاربة البدع، ونشر علوم الدين واللغة وآدابها، وسائر المعارف الإنسانية، وتفجر منه علم عزيز، عم الدنيا، وتوهجت فيه شعلة الفكر تحرق أسمال الجمود والتخلف، وتنير أطباق الظلمات المتراكمات، وتملأ العقول بوهج خالد من الإيمان والثقافة، وأصبح حصنا للدين واللغة والمعرفة.

إن الذين يحبون ويشايعون علي بن أبي طالب وبنيه قد أصبحوا، يقودون مصر والمغرب العربي والأندلس، وكثيرا من أقطار الإسلام! ثم أن الشيعة وأهل السنة على السواء لا يقبلون ما قاله ابن حزم عن الإمام والباغين عليه، وعن الطاهرة خديجة، وفاطمة الزهراء التي قامت دولة بأسرها تنتسب إليها .. والأندلسيون بصفة خاصة لم يعودوا يحملون للأمويين، ما حملوه من تقدير وحب، أيام الخلفاء العظام، بل لقد شيعوا الأمويين باللعنات، حين سقطت دولتهم، لكثرة ما عانوا من مظالم في نهايتها، وما عاينوا من فساد، ولأن الأمراء الأمويين في أواخر عهد الدولة الأموية، خرجوا عن تقاليد السلف الصالح بالأندلس، وأهدروا الإسلام وأسقطوا هيبة الخلافة، وانشغلوا بالترف، والصراع، واللهو .. ومنهم من أذل العلماء وأهل الفكر والفقه، ليسود الندامى والجواري والغلمان، ومنهم من نزل لأمراء الفرنجة عن بعض أرض المسلمين، ودفع لهم الجزية، واستعانهم على بني عمومته .. وتركهم يجوسون خلال الديار ينتهكون ويغتصبون ويقتلون!!

ولئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم حين أفتى بما خالف كل أصحاب المذاهب من الأئمة السابقين، وحين شوه بعض الفقهاء والعلماء وأدانهم بالفسق، وذكر عنهم أخبارا مهينة .. لئن كان من الناس من سكت عن ابن حزم وهو يصنع هذا كله واكتفى بمجافاته والغضب منه، إن الناس الآن لا يستطيعون السكوت بعد، وهو يناصب علي بن أبي طالب العداء ...

ثار عليهم الناس جميعا، واتهموه بأنه "ناصبي" قد ناصب علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء العداء! فلا مقام له بعد في هذا الطرف من أطراف الأندلس.

أما في الأندلس فهم ينتظرونه لينزلوا به العقاب .. عسى أن يشفي العقاب صدور قوم موغرين! وهكذا وجد نفسه قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلا هو يستطيع البقاء بالقرب من المغرب، ولا هو يجسر على العودة إلى المدن الكبرى في الأندلس.!!

غير أن صديقه الذي كان مرشحا لتولي إمارة إحدى الإمارات، قد أصبح اليوم أميرا على "ميورقة" إحدى جزر الأندلس ...

ودعاه صديقه ليقيم في الجزيرة الجميلة الهادئة. وكان الأمير الجديد ذا مكانة في الدولة، فوعد ابن حزم بالحماية .. وشرط عليه ألا يشتغل بالسياسة، وألا يكتب ما يثير الناس، وأن يتفرغ للكتابة في الدين .. فهو مهما تكن مشاكل الكتابة فيه، أقل هما من الكتابة في السياسة.

إن هذا هو ما يريده ابن حزم على التحقيق: السكينة، والملجأ الأمين، في مكان هادئ جديد، بجوار صديق كريم، والعودة إلى الكتابة في الفقه والأصول.

ولقد أنضجته التجارب والمحن والقراءات والتأملات .. وأن له أن يصوغ منهجه وآراءه الفقهية المتناثرة في مجلدات متكاملة.

وسافر إلى "ميورقة" ليقيم في أطيب حال، في ظل ظليل من حماية أميرها ومودته .. وكان الأمير قد أعد قصرا فاخرا لابن حزم، وخزانة كتب جمع فيها كل ما يطيب لفقيه أديب كابن حزم..

وكما يعتكف العابد في المحراب، اعتكف ابن حزم في داره، لا يخرج منها إلا لحظات لصلاة الجمعة، أو للسمر مع صديقه الأمير، فيدراسه فيما اهتدى إليه من آراء وأفكار.

لقد خرج ابن حزم من كل ما مر به بعبرة جعلها دستورا لما تبقى من حياته: "ليس في العالم منذ كان إلى أن يتناهى، أحد يستحسن الهم، ولا يريد إلا طرحه عن نفسه، فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع، وانكشف لي ذلك السر العجيب وأنار الله لفكري هذا الكنز العظيم بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفسي فلم أجدها إلا في التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة".

علمته الأيام في تداولها بين الناس أن "لذة العالم بعمله، ولذة الحكيم بحكمته، ولذة المجتهد لله عز وجل، أعظم من كل لذة في الحياة الدنيا .. وإن فليمنح هو ما بقى له من العمر للذات العليا: العلم والحكمة والاجتهاد لله.

وأنه ليعرف فيما عرف من العجائب "أن الفضائل مستحسنة مستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستحبة" .. فليكن إذن من النفر القلائل الذي يناضلون من أجل الفضائل مهما تكن مستثقلة، لكم صقلته السنوات!

فهاهو ذا ينصح من يلتمس عنده حسن النصيحة: "احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتحفظ من أن توصف بالدهاء، فيكثر المتحفظون منك حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك" .. ويقدم نصيحة أخرى: "إياك ومخالفة الجليس، ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك وأخراك وإن قل، فأنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة. وربما أدى ذلك إلى الضرر العظيم دون منفعة أصلا. وأن لم يكن لابد من إغضاب الناس أو إغضاب الله عز وجل، ولم يكن مندوحة عن منافرة الخلق أو منافرة الخالق، فاغضب الناس ونافرهم ولا تغضب ربك ولا تنافر الحق".
واعتذر للناس كافة عن حدته في الكتابة والجدل بمرض أصابه ولزمه، فبدل خلقه من دعة إلى عنف: "لقد أصابتني علة شديدة ولدت ربوا في الطحال شديدا، فولد ذلك على من الضجر، وضيق الخلق، وقلة الصبر، والنزق .. واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي. وصح عندي أن الطحال موضع الفرح وإذا فسد تولد ضده" .. ولكنه مع ذلك لم ينكر أن مصاولة المخالفين هي التي حفزته إلى كثرة القراءة وإمعان النظر، وقدحت ذهنه، فاندلعت منه الأفكار.

وما أعجب ما مر به في حياته المضطربة من أحوال الناس!..

وإنه في تلك الجزيرة الهادئة من جزر الأندلس، ليشعر بالطمأنينة والسكينة، وبالراحة، والأمن، في ظل جسارة صديق يتحدى الخطر .. إنه في إعجابه العميق بمروءة صديقه هذا الذي يحميه ويكرمه متفضلا عليه لا رادا لجميل سابق أو لسالف عارفة .. أنه في مكانه هذا ليذكر صديقا آخر في الزمن البعيد، كان كاتبا، ونمت بينهما المودة والمحبة وهما في السنوات الخضر من أول العمر .. ما أبعد الفرق بين الصديقين ..!

كتب ابن حزم عن ذلك الصديق القديم: "كان متصلا بي ومنقطعا إلى أيام وزارة أبي رحمة الله عليه، فلما وقع بقرطبة ما وقع، وتغيرت أحوالي، خرج إلى بعض النواحي، فاتصل بصاحبها وعرض جاهه. وحدثت له وجاهة وحالة حسنة. فحللت أنا تلك الناحية في بعض رحلتي، فلم يوفني حقي، بل ثقل عليه مكاني، وأساء معاملتي وصحبتي، وكلفته في خلال ذلك حاجة لم يقم فيها ولا قعد واشتغل عنها بما ليس مثل شغله .. فما كلفته حاجة بعدها..".
مهما يكن من الصعاب التي مرت به، فهاهو ذا الآن في لين من العيش لا ينقصه إلا أن يكتب، وينشغل بالعلم، والحكمة، والاجتهاد لله عز وجل .. وكل ما حوله من راحة ومتاع، ودعة، وطيب العيش، وجمال الطبيعة، وصباحة الوجوه، ودفء المودة .. كل ما حوله يعينه على ما يريد من تفرغ للكتابة..

على أنه لم يلبث غير قليل من معتكفه الرائع. ذلك، حتى أخرجه الناس منه، ليتلقوا عنه، وذهب إليه بعض العلماء ليناظروه .. لقد وجد في ميورقة تلاميذ واتباعا معجبين به على الرغم من كل ما يثار حوله .. ولقد ناظره أحد الفقهاء يوما فلما ظهر عليه ابن حزم قال الفقيه: "تعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس" (جمع سراج). فقال ابن حزم "وتعذرني، فإن أكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة".

وامتدت عليه حماية صديقه أمير ميورقة إلى حيث أراد أن ينتقل من أرض الأندلس فذهب إلى بعض المدائن المجاورة يناظر ويعلم، ثم ذهب إلى قرطبة نفسها، في موكب من الأتباع، والدواب تحمل كتبه حيثما أنتقل.

وعاد إلى ميورقة ليعتكف من جديد .. ولقد لقي أحد الفقهاء في بعض رحلته، فتناظرا أمام الناس، وحين انتصر ابن حزم في المناظرة قال له الفقيه: "أنا أعظم منك همة في العلم، لأنك إنما طلبته وأنت معان عليه فتسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل السوق". فرد ابن حزم: "هذا الكلام عليك لا لك لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته فلم أرجو به إلا علو القدر في الدنيا والآخرة." وعنى ابن حزم في تلك الفترة بصقل آرائه وأفكاره وصياغتها في الصورة التي سيتركها من بعده للتاريخ.

واتخذ لنفسه منهجا عقليا خالصا تأثر فيه بالإمام جعفر الصادق على الرغم من انتمائه وولائه الأموي. فأعتمد كما اختط الإمام الصادق جعفر بن محمد على الاستقرار والتجربة، وبصفة خاصة في دراسته عن الأخلاق التي ضمنها رسالة صغيرة عرفت باسم حكم ابن حزم أو مداواة النفوس. ولا ريب أنه أفاد من تراث الفكر المصري القديم، والفكر الفارسي والهندي، واليوناني، وكانت كل تلك الآثار قد ترجمت إلى العربية منذ أجيال .. ولم يعتمد على إلمامه بالفكر الإنساني فحسب، بل على فهمه لأحوال المجتمعات التي عاش فيها، وعلى تجاربه وحسن معرفته بالناس والحياة.

ومن هذا التجاريب والدراسات والمعارف استقرأ آراءه في الأخلاق. فهو يرى أن هدف النشاط الإنساني هو دفع الهم والحصول على اللذة، وهي عنده لذة الروح.

ويرى في الفضيلة رأي أرسطو ويقول: "الفضيلة وسط بين الإفراط والتفريط، وكلا الطرفين مذموم، والفضيلة بينهما .. حاشا العقل فإنه لا إفراط فيه ..

وهو يرى رأيا قريبا من رأي أفلاطون في أصول الفضائل وأصول الرذائل: "أصول الفضائل أربعة، عنها تتركب كل فضيلة وهي العدل والفهم والنجدة والجود.

وأصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة، وهي اضداد الذي ذكرنا، وهي الجور، والجهل، والجبن، والشح، والعفة والأمانة نوعان من أنواع العدل والجود.

وأفلاطون يرى أن أصول الفضائل هي: المعرفة (وهي الفهم عند ابن حزم)، والعفة، والعدل. وابن حزم يضع السخاء أو الجود مكان العفة. ذلك أنه يرى أن العفة التي جعلها أفلاطون أصلا من أصول الفضائل، إنما تدخل في العدل والجود.

وابن حزم يدعو العلماء والفقهاء إلى التفقه في العلوم الإنسانية .. تأثر بالإمام الصادق الذي مارس الكيمياء وأسس قواعدها، وربى تلميذه جابر بن حيان على إتقان الكيمياء وأنشأ له معملا، وظل يرعاه حتى ترك جابر بن حيان في الكيمياء تراثا شارك في صنع التقدم الإنساني كله عبر العصور.

قال ابن حزم: "كشف العلوم النافعة يزيد العقل جودة ويعفيه من كل آفة، ويهلك ذا العقل الضعيف".

وهو في رسالته عن الأخلاق يضع ضوابط للخير والشر، وينتهي إلى أن الدين ضرورة الجماعات البشرية، فهو الذي يحميها وينشر فيها الثقة بين الأفراد ويعمها بالفضائل، ويجمعها على الحب والخير والحق.

وهو لا يخص الإسلام وحده بذلك، بل كل دين سماوي. قال: "ثق بالمتدين ولو كان على غير دينك. ولا تثق بالمستخف وأن أظهر أنه على دينك ومن استخف بحرمات الله تعالى فلا تأمنه على شيء تشفق عليه".

فهذا الفقيه الذي كان يتعصب لآرائه حتى ليصف نفسه بالنزق، والذي اشتد على بعض اليهود والنصارى الذين هاجموا الإسلام، وأخرجهم من ذمة الله ورسوله لتهجمهم على ما أوحي به الله إلى رسوله .. هذا الفقيه نفسه يطالب المسلمين ألا يثقوا بمسلم غير متدين، وألا يأتمنوه على شيء، ويدعوهم إلى الثقة بالمتدينين من اليهود والمسيحيين، وإلى أئتمانهم على كل ما هو غال وعزيز على المسلمين.!

وذلك أنه يرى الدين أساس الفضيلة، كل الديانات السماوية دعوة إلى الصدق، والإخلاص، والمحبة، والكرم، والمروءة وسائر الفضائل .. وأن كل دين سماوي إنما جاء مكملا لما قبله، حتى بعث الله خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم متمما لمكارم الأخلاق .. فالمتدين من اليهود والنصارى أدنى بها إلى مبادئ الإسلام وإلى الله تعالى من المسلم غير المتدين..!

ومكارم الأخلاق التي جاء بها القرآن مصدقا لما بين أيديهم من التوراة والإنجيل، يمكن التعرف عليها بالعقل.

المسلمون مأمورون بالتدبر، والتفكر، وإعمال العقول لمعرفة الخير والشر، والفضائل والرذائل .. على هذا نص القرآن الكريم والسنة الشريفة. فإذا أعمل الناس عقولهم اهتدوا إلى سواء السبيل .. قال تعالى عن الضالين:

{ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِيۤ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } ( الملك ، الآية : 10 ) .

وإذن فوظيفة العقل عنده هي هداية صاحبه إلى الخير والفضائل. أما الذين يشحذون عقولهم لاجتلاب المنافع، غير مبالين بالفضيلة فهؤلاء ليسوا هم أصحاب العقل، بل هم أصحاب الدهاء، فالعقل لا يقود إلا إلى الحق والخير..

وهو نفسه قد آثر العلم على جميع اللذات، وترك جمع المال إلى هموم العلم، وكان قادرا لو اهتم بجمع المال على أن يكون من أغنى أغنياء عصره. ولكن تصاريف الزمان علمته أن المال، واللذة الحسية، وكل فنون المتاع إنما هي عرض زائل، ولا يبقى إلا الحكمة والعلم. "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا." ويقول: "للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة..".

ورأى ابن حزم. أهل زمانه يستخفون بمن يصرف جهده عن الاستزادة من المال ليستزيد من العلم والحكمة فيقول في هذا: "ترك المبالاة بكلام الناس والمبالاة بكلام الخالق عز وجل هو العقل كله، والراحة كلها. من قرر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. ومن حقق النظر وراضى نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمته في أول صدمة كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه. لأن مدحهم إن كان بحق وبلغة سرى فيه العجب، فأفسد بذلك فضائله، وإن كان بباطل فسره، فقد صار مسرورا تجنبه ما يعاب عليه، وهذا حظ عظيم لا يزهد فيه إلا ناقص، وأن كان بباطل فصبر، اكتسب فضلا زائدا بالحلم والصبر..".

وهو يرى من حسن الأخلاق أن يثبت الإنسان على الفكرة والعمل ما اقتنع بأنه على حق، فإذا اكتشف أنه على الباطل، فالثبات لجاج، وهو مذموم ...

ثم ينتهي ابن حزم في حديثه عن الأخلاق إلى أن خير ما يفعله المسلم ليستقيم له الخلق الفاضل، هو التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمرنا الله بهذا: { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ}( الأحزاب ، الآية : 21 ) ثم أن الله تعالى وصفه بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }( القلم ، الآية : 4 ) .

ويقول ابن حزم عن القواعد والضوابط التي وضعها للأخلاق أنه "أفاد فيها" مما منحني الله تعالى من العلم بتصاريف الزمان والأشراف على أحواله، حتى أنفقت في ذلك أكثر عمري، وآثرت تقييد ذلك بالمطالعة له، والفكرة فيه على جميع اللذات التي تميل إليها أكثر النفوس، وعلى الازدياد من فضول المال."

ويرى ابن حزم أن الإنسان عنده علم البديهة وهو علم النفس .. فالطفل يدرك بالبديهة أن الجزء أقل من الكل، وأن المكان الواحد لا يشغله جسمان في وقت واحد فهو يتنازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه. علما منه بأن هذا المكان لا يسعه مع غيره، وهو يدرك أنه لا يجتمع الأمران، المتضادان، فأنت إذا وقفته بغير إرادته بكى .. حتى إذا تخلص عاد إلى القعود. وإذا كبر الطفل أدرك أن الأخبار عما هو غائب لا يصح أن تتعارض، فإذا تعارضت شك في الجميع أو ألغاها .. وهكذا يعرف الإنسان أخبار الأنبياء ووقائع التاريخ، فإذا كبر عقله استطاع أن يعرف الصادق من المنقول عن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وبذلك يتحقق أن علم العقل أساس لعلم النقل .. وابتعاد الخبر مدعاة لخطأ، كالأعداد في الحساب كلما كثرت الأعداد زادت مظنة الخطأ في أجزاء العمليات والمعادلات الحسابية والجبرية عليها.

ويضيف أن هذا ليس هو سبب الخطأ فقط، بل عوامل أخرى تفسد النقل وهي الشهوة والانحياز. على أن العقل يظل قادرا على التمييز أبدا.

وهو يؤمن بكل ما جاءت به النصوص، معملا العقل في تفسيرها بظاهرها. فإذا كانت النصوص قد أجمعت على أن الله هو خالق كل شيء فلا أحد يخلق فعلا من الأفعال، وإلا كان شريكا الله تعالى في الخلق، ولكنه يناقش هذا النظر ويقول أن الأخذ به يسقط التكليف، فلا حيلة للإنسان إذن والله يخلق أعماله، ولا إرادة للإنسان ولا اختيار، ولكنه الجبر قطعا.

ويصحح هذا الفهم بقوله أن الله خلق في العبد الاستطاعة والاختيار فهو يختار ما يفعله وما يستطيعه. وبذلك يكلف الله العباد ويحاسبهم على أعمالهم.

ثم يتحدث عن الاجتهاد بالرأي فيذهب إلى أنه ليس من الشريعة. لأن الله لم يفرط في الكتاب من شيء..

فلا مجال للرأي إذن لأن كل الأحكام واردة في نصوص القرآن والسنة أو إجماع الصحابة فإن لم يوجد فيها الحكم فقد نص القرآن على إباحة ما لم يحرمه الله فيكون الحكم في كل واقعة حيث لا نص هو الإباحة أو استصحاب الحال بحكم النص القرآني: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .

على هذه الأصول يستنبط كل الأحكام الخاصة بالعقيدة وبالمعاملات، أي بالدين وبالشريعة .. وهو القضايا الفكرية التي تتعلق بالعقيدة يمتحن النصوص والإجماع فيجد فيها إجابة عن كل سؤال.

فقد زعم الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر مآله إلى النار.

وقالت المعتزلة أنه في منزلة بين المنزلتين فلا هو كافر ولا هو مؤمن. وذهب بعض أهل السنة إلى أنه ليس مؤمنا، ولكنه مسلم لم يخرج عن الإسلام إلى الكفر بل خرج عن الإيمان إلى الفسوق .. وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.
وذهب آخرون إلى أن الحكم عليه يرجأ إلى يوم القيامة، فإن شاء الله أخذه بالكبيرة وأن شاء الله عفا عنه، وهؤلاء هم المرجئة.

أما ابن حزم فقد استنبط حكمه من النصوص، وأفتى في مرتكب الكبيرة بفتوى بعض أهل السنة: "فمن تاب بعد ارتكابه الكبيرة غفر الله له والله غفور رحيم" أما من قبل التوبة النصوح، فإن رجحت حسناته سقطت كبائره لأن للحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإلى أكثر من ذلك أضعافا مضاعفة .. هذا هو نص القرآن الكريم .. فإذا استوت حسناته مع سيئاته فهو على الأعراف ينتظر الجنة، وعلى الأعراف رجال ينتظرون، ثم يدخلون الجنة آخر الأمر، أما أن زادت سيئاته على حسناته فإلى النار. غير مخلد فيها أبدا، بل يخرج منها إلى الجنة بقدر ما تؤهله الحسنات."

ويعرض ابن حزم لمشكلة أخرى كانت مثارة من قبل عصره، وهي وحدانية ذات الله تعالى .. أله صفات منفصلة عن الذات؟ أم أن أسماء الله الحسنى هي صفاته، وكلها هي الذات الإلهية.؟!

قال ابن حزم: "وأما إطلاق لفظ الصفات لله عز وجل فمحال لا يجوز، لأن الله لم ينص في كلامه المنزل على لفظ الصفات وعلى لفظ الصفة. ولا حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله صفة أو صفات. نعم ولا جاء ذلك قط عن أحد الصحابة رضى الله عنهم، ولا عن أحد من خيار التابعين".

فهو يعتبر الألفاظ التي تدل على صفات إنما هي من أسماء الله تعالى، مثل السميع البصير القادر القدير الحكيم العليم الرحمن الرحيم إلى غير ذلك من أسماء الله الحسنى. وهذا بنص الآية:

{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ ْ} ( الأعراف ، الآية : 180 ) .

أما عن الألفاظ الموهمة للتشبيه مثل: "وجه ربك" و"يد الله" فهو يطالب من يريد أن يفهمها أن يتدبر النص القرآني في لغته، وأن يتعمق دراسة اللغة العربية، فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين.

ومن يدرك أسرار اللغة، يفهم بالضرورة أن الله تعالى حين يتحدث عن وجهه ويده، لم يرد عضوا بعينه في الجسم المحسوس، بل أراد الذات نفسها. فعندما تقول العرب: "ما ملكت يميني مثلا" فالمعنى "ما ملكت أنا" لا ما ملكت يدي اليمنى دون يدي اليسرى.

وهكذا فسر قوله تعالى: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } (الرحمن ، الآية : 27 ) . أي يبقى ربك فهو وحده الذي لا يفني وفسر قوله تعالى: {يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}( الفتح ، الآية : 10 ) ، بقوله: "الله فوق أيديهم". وفسر:

{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ َ} ( المائدة ، الآية : 64 ) بقوله: "الله ينفق كما يشاء".

ومن فهم غير ذلك فليعد دراسة أساليب العرب وآدابهم ليعرف أن للألفاظ في اللغة العربية دلالات مجازية، وهي من دلالات ظواهر الألفاظ.

إلى هذا انتهى ابن حزم في الخلاف الذي ظل مشتجرا حول الأسماء والصفات، واتهم كل من لم يوافقه، بأنه لا يعرف أساليب العرب، ولا أسرار اللغة التي نزل بها القرآن، ونصحه بأن يصنع ما صنع الليث بن سعد والشافعي: أن يخرج إلى بادية نجد أو الحجاز ليتقن اللغة، وأن يحفظ أشعار القدامى وبصفة خاصة شعر الهذليين.

فأسماء الله ليس فيها ما أسماه القرآن بالمتشابه، أي لا يعرف معناه ولا حكمه. فلا متشابه في القرآن إلا الحروف التي بدأت بها بعض السور مثل ألف لام ميم، (ألم)، وألف لام راء (ألر) وصاد (ص)، ونون (ن)، وقاف (ق) إلى غير ذلك، وإلا ما أقسم به الله تعالى: مثل "والذاريات"، و"الشمس وضحاها" و"الفجر". و"لا أقسم بهذا البلد". وليس لأحد الحق في أن يبحث في هذا المتشابه، فقد يقوده البحث إلى الزيغ والضلال.

بهذا أمرنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأتبعه الصحابة.

فإنه لا رأي فيما لم يوضحه الرسول .. وقد أمر المسلمين ألا يسألوه فيما سكت عنه، فما أهلك من قبلهم من الأمم إلى الشغب على أنبيائهم بكثرة السؤال.

قال تعالى: {فَرَّطْنَا فِي ٱلكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ} ( الأنعام ، الآية 38 ) . فما مكان الرأي إذن، إلا إذا قلنا أن القرآن قد فرط في شيء!؟ .. وقال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِر} ( النساء ، الآية : 59 ) . فلا حكم إلا بما قضى به الله ورسوله، ثم أولو الأمر .. أي الإجماع.

وفي صحيح البخاري من حديث أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال : حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعا , ولكن ينزعه مع قبض العلماء بعلمهم , فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم , فيضلون ويضلون } .

ثم يستدل بأقوال الصحابة في النهي عن الأخذ بالرأي، ويرفض الأحاديث والأخبار التي تواترت عن الاجتهاد بالرأي، ويتهم رواتها بالضعف أو الكذب.

يذهب ابن حزم إلى أن القرآن وحده هو الأصل الوحيد للشريعة، وفيه أمر لنا باتباع الرسول. فالسنة حجة. قال تعالى يخاطب رسوله: {بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}( النحل ، الآية 44 ) فالرسول (ص) يبين القرآن، وأهل الذكر مسئولون عن بيان ما في القرآن والسنة، لما تعلموه من الرسول.

والبيان كما يقول ابن حزم: "يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليا، وبعضه خفيا، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم بفهمه، وبعضهم يتأخر عن فهمه. كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "إلا أن يؤتي رجلا فهما في دينه".

هاهو ذا يستشهد بقول الإمام علي كرم الله وجهه!

وفي الحق أن ابن حزم ما ناصب الإمام عليا العداء!...

فابن حزم قد اعتمد في بعض فقهه على أقضية للإمام علي، وفتياه، وعلى آراء لحفيده الإمام جعفر الصادق.
ولقد ذكر ابن حزم أن عمر بن الخطاب كان يستفتي علي بن أبي طالب فيما يغم عليه من الأحكام ويقول: "على أقضانا" فإذا عرضت لعمر قضية ولم يجد عليا قال: "قضية ولا أبا حسن لها" ..

وما اعتمد ابن حزم على آراء الإمام علي تكفيرا عما سلف منه، أو نفاقا للأمراء والعلماء ممن يفضلون عليا على سائر الصحابة، بل توقير للإمام علي، وعرفانا بمكانته من الرسول عليه الصلاة والسلام، وبمكانه في الإسلام، وفضله في إرساء قواعد الشريعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.

هو إذن يرى أن الأحكام كلها في القرآن، و القرآن هو الذي نص على حجية السنة إذ أمرنا باتباع الرسول، ونص على حجية الإجماع بنصه على أهل الذكر والصحابة، فإذا لم يمكن استنباط الحكم من القرآن أو السنة أو الإجماع، فلا سبيل إلا الاستصحاب وهو بقاء الحكم المبني على النص حتى يوجد دليل على نصوص تغيره. قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً} ( البقرة ، الآية : 29 ) .

وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ}( البقرة ، الآية : 36 ). وإذن فقد "أباح الله تعالى الأشياء بقوله أنها متاع لنا ثم حظر ما شاء. وكل ذلك بشرع. أي بنص..".

وقاده التزامه هذه الأصول التي خالف فيها جميع الأئمة والفقهاء إلى مخالفتهم في كثير من الفروع. فاعتبر التزام أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة يجب اتباعها، وإن لم يصطحب فعله أمر. وعاب على اتباع مالك ترك هذه السنة فقال: "اختاروا الصوم في رمضان في السفر، ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر. ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم، وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك. وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه لكان منسوخا بفعله عليه الصلاة و السلام .. ولا يجوز أن يقال عن شيء فعله رسول الله أنه خصوصي إلا بنص في ذلك، لأنه عليه الصلاة و السلام قد غضب على من قال ذلك، وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام.

ذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك. فقال الأنصاري: "يا رسول الله إنك لست مثلنا. قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر" فغضب عليه صلى الله عليه و سلم وقال: "والله أني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتى وما أذر" .. وقد روت عائشة: "أنه صلى الله عليه و سلم كان يترك الفعل وهو يحبه، خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم، كما فعل صلى الله عليه و سلم في قيام الليل في رمضان، قام ثم تركه خوف أن يفرض علينا. وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل: أيجوز أن يترك صلى الله عليه و سلم الأفضل ويفعل الأقل فضلا؟ فأعلمناه أنه صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك رفقا بنا .. وكذلك الشيء إذا تركه صلى الله عليه و سلم ولم ينه عنه ولا أمر به فهو مباح. وضرب مثلا لذلك: "من استمع زمارة الراعي، فلو كان حراما لما أباحه صلى الله عليه و سلم لغيره، ولو كان مستحبا لفعله صلى الله عليه و سلم " .. وكان ابن حزم يحضر مجالس الغناء في قرطبة اعتمادا على هذا.

وروي عن عائشة أنها سألت زوج بنت أختها وكانت من اجمل فتيات عصرها ألا يداعبها ويقبلها، فتحرج الفتى فقالت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك وهو صائم في نهار رمضان.

وعاد اتباع مالك يغلظون له ويحاولون الإيقاع به في كل فقهه وأصوله .. وذهبوا إلى أنه يخالف إجماع أهل المدينة وإجماع أهل المدينة سنة، لأنهم نقلوا عن الرسول عليه الصلاة والسلام مئات عن مئات وآلافا عن آلاف، فهي سنة أقوى من النقل عنه عليه السلام واحدا عن واحد .. وهذا هو رأي الإمام مالك نفسه.

ولم يصبر ابن حزم على اتهامهم إياه بأنه يخالف السنة، فانقض يسفه من يقول بهذا، ويردد حجة الإمام الليث في رده على الإمام مالك أن الصحابة وفي صدورهم علم الدين والشريعة، تفرقوا في الأمصار يعلمون الناس، وملأوا المدائن، فليس لأهل المدينة امتياز عن أهل الكوفة التي أقام بها الإمام علي وعبد الله بن مسعود، ولا عن أهل مصر التي أقام بها عبد الله بن عمرو بن العاص. وغيره من الصحابة، ولا عن غيرها من أقطار الأرض التي عاش فيها صحابته .. وكان علم بعضهم أغزر من علم الذين بقوا في المدينة فضلا عن السابقة في الإسلام.

وأضاف بعد ذلك أن أهل المدينة ساروا على خلاف سنة الرسول في كثير من أمورهم، فعندما تولى عمرو بن الخطاب، أنكر على حسان بن ثابت إنشاده الشعر في المسجد، فلما قال له حسان: "قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك"، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر ومضى.

فهذا يبين أنه لا حجة في قول أحد ولا في عمل بعد النبي عليه الصلاة والسلام.

ثم أن ابن حزم انقض على أهل المدينة انقضاضا: "فأي برهان على أن المدينة افضل البلاد كما يقولون؟ أن مكة هي افضل البلاد بنص القرآن. ومع ذلك ففضلها لا يوجب اتباع أهلها دون غيرهم. ولا يختلف مسلمان في أنه كان في المدينة منافقون، وفيها شر الخلق. قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ } ( التوبة ، الآية : 101 ). وقال تعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ فِي ٱلدَّرْكِ ٱلأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } ( النساء ، الآية : 145 ) . وكان فيها فساق كما في سائر البلاد، وزناة وكذابون وشربة خمور وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق. وأهلها اليوم ـ وإنا لله وإنا إليه راجعون ـ غلاة الروافض الكفرة.

فترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة" فإن قالوا: (لا، لكن إنما نوجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة)، (قلت لهم ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد، وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا وأيضا فالمدينة فضلها باق كما كان لا يتغير ولن يتغير أبدا، وأهلها أفسق الناس. فقد بطل أن يكون لليقعة حكم في وجود اتباع أهلها، وصح أن الفاضل فاضل حيث كان، والفاسق فاسق حيث كان) واتهم القائلين بتفضيل أهل المدينة بأنهم "تابعوا خطأ مالك، وقد ولد مالك بن أنس سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وثمانين سنة،فأخبروني عن أي مذهب كان الناس قبل مالك؟ .. فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري (الذي ذبح في المسجد أحد الفقهاء من معارضيه يوم عيد الأضحى وقال عن ذبحه: إنه أضحية! الدماء والأموال والأحكام، وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفي .. ولا فرق بين إجماع أهل المدينة أول الكوفة وأهل البصرة وأهل الفسطاط هذا إن أرادوا من كان بها من الصحابة والتابعين) وتساءل: "أكان بالمدينة من هو افضل من علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وقد أقاما بالكوفة؟".

ورد على اتهامه بالكفر لأنه يخالف إجماع أهل المدينة فقال: "إن كان مخالفة أهل المدينة كفرا، فتحكموا بالكفر على أمير المؤمنين على بن أبي طالب والصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقد خالفا إجماع أهل المدينة"!

ولقد قاده الاقتصاد في استنباط الأحكام على ظاهر النص إلى مخالفة إجماع الفقهاء وأئمة المذاهب من قبله.

ـ فهو يرى أن المرأة تستطيع أن تحج وحدها دون اصطحاب الزوج أو أحد المحارم.

ـ لا يجيز ابن حزم فسخ الزواج بحكم القاضي لعيب في الزوج ولا لعدم النفقة ولا للضرر ولا لغياب الزوج لأن أمر الطلاق للزوج، وإذن فكل من فرق بين زوجين بغير قرآن أو سنة فقد دخل في صفة الذين ذمهم الله تعالى بقوله:

{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}( البقرة ، الآية : 102 ) ونعوذ بالله من هذا. وعلى أنه يقرر أنه يجوز الحكم بالطلاق في حالة واحدة هي ظهور عيب بعد اشتراط السلامة من العيوب. وما عدا هذا الشرط فشروط الزواج باطلة: كأن تشرط الزوجة ألا يتزوج عليها أو أن تكون العصمة بيدها أو ألا يسافر ويتركها.

ـ اليمين بالطلاق باطل، فلا يقع طلاق والحالف آثم لأنه لا يمين إلا بالله تعالى.

ـ المفقود حكمه حكم الحي حتى تثبت وفاته ثبوتا قاطعا.

ـ الزوجة عند عجز الزوج عن الإنفاق عليها لا تطلق، بل ينفق عليها ولي الأمر إن كانت فقيرة، من أموال الصدقات، فإن كانت غنية وجب عليها أن تنفق هي على نفسها وعيالها وعلى زوجها.

ـ كل تصرفات المريض مرض الموت من وصية وهبة وطلاق وزواج صحيحة، لا قيد عليها لعدم ورود نص بمنعها أو تقييدها. وبعض الصحابة لا يعترف بطلاق المريض مرض الموت، ويعتبره فرارا من الميراث .. ويستشهد بفتيا للإمام علي ابن أبي طالب، ففي عهد عثمان طلق أحد الأنصار الأغنياء زوجة أنصارية، وكانت زوجته الثانية بنت عم علي بن أبي طالب، فلما مات الزوج أرادت زوجته الثانية أن تختص وحدها بميراث الزوج لأنه طلق الأولى في مرض موته، فاستشار عثمان ابن عفان رضي الله عنه في هذا، فأتاه علي بن أبي طالب فأشار بأن المطلقة ترث لأن الزوج يفر من قواعد الميراث، فشرك عثمان بين الزوجتين وإذ راجعته الزوجة الثانية قال لها: "هذا رأي ابن عمك".
ـ اعتبار الوصية فرض لازم لقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ }( البقرة ، الآية : 180 ). ولا يوجد نص بفسخ هذا الحكم. ولكنه يشترط ألا تضر الوصية بالورثة ويقول في هذا: "فرض على كل مسلم أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، فإن لم يفعل نفذ من ماله ما كان يجب عليه أداؤه، وعلى ولي الأمر تنفيذه في حدود الثلث".

وقد أخذ القانون المصري برأي ابن حزم في فروع الولد الذي يموت في حياة أبيه. ورأى أن تكون بمقدار نصيب الوالد المتوفى على ألا تزيد على الثلث.

ـ حقوق الله في التركة مقدمة على حقوق العباد، وأول حقوق الله هي الزكاة المتأخرة .. ويقول: "إن حقوق الله أحق بالقضاء من غير تخريج ويجب الأخذ بظاهر النص" .. ويهاجم الأئمة الأربعة لقولهم بغير هذا. ويصف رأي مالك بأنه "أفحشها تناقضا وأوحشها شدة وفسادا" لأن مالك قدم حقوق العباد، أما عن حق الله فالله غفور رحيم. ويقول أستاذنا المغفور له الشيخ محمد أبو زهرة تعليقا على قول ابن حزم في مالك: "وإنا لنستغفر الله تعالى لنا وله على نقده لقول مالك بهذه اللغة ونقلنا له".

ـ أوجب ابن حزم إعطاء الأقارب واليتامى عند قسمة التركة إذا حضروا عند القسمة. وذلك بما لا يجحف بحقوق الورثة. وولي الأمر ملزما بإجبار الورثة على إعطاء أولئك ما تطيب به نفوس الورثة .. وذلك أخذا بظاهر نص الآية: { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ( النساء ، الآية : 8 ). ثم يضيف: "أمر الله تعالى فرض لا يحل خلافه" .. وعن ابن عباس يزعمون أن هذه الآية نسخت: {وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ } فلا والله ما نسخت، ولكنها مما تهاون الناس بها .. هي واجبة، ويعمل بها، وقد أعطيت بها.

ويرد ابن حزم على من فهموا أن الأمر في الآية الكريمة ليس أمر وجوب بقوله: ".. لا يفهم أحد من (افعل) إن شئت فلا تفعل .. وليس وجود آيات قام البرهان على أنها منسوخة أو مخصوصة أو أنها ندب، بموجب أن يقال ـ فيها لا ـ دليل بذلك فيه ـ هذا ندب أو هذا منسوخ أو هذا مخصوص، فيكون قولا باطلا".

ابن حزم لا يحدد قدر ما ينبغي أن يأخذه أولو القربى واليتامى والمساكين إن حضروا قسمة التركة، بل يترك ذلك لما تطيب به نفوس الورثة. فإن لم يفعلوا، فرض ولي الأمر ما يراه مناسبا وعادلا.

يجيز ابن حزم لولي الأمر أن يفرض على التركة حصة للفقراء والمساكين وإن لم يحضروا القسمة، على أن تنفق عليهم هذه الحصة. وأحق الفقراء والمساكين بهذه الحصة من كان ذا قربى .. وقد أخذ القانون المصري بهذا النظر مع تعديل يسير في فرض ضريبة التركات ورسم الأيلولة.

الأشهاد على البيع واجب شرعي .. قال في ذلك ابن حزم: ".. وفرض على كل متبايعين لما قل أو أكثر أن يشهدا على تبايعهما رجلين أو رجلا وامرأتين من العدول، فإن لم يجد عدولا سقط فرض الأشهاد، فإن لم يشهد وهما قادرات على الأشهاد فقد عصيا الله والبيع تام، فإن كان البيع بثمن إلى أجل مسمى، فرض عليهما مع الأشهاد المذكور أن يكتباه، فإن لم يكتباه فقد عصيا الله عز وجل، والبيع تام. فإن لم يقدرا على الكتابة، فقد سقط عنهما فرض الكتابة". وابن حزم يستنبط هذا الحكم من ظاهر الآية الكريمة: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ( البقرة ، الآية : 182 ) .

ويقول ابن حزم عما جاء في نص الآية، هذه أوامر مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا ويشرح أحكام الآية: "أمر بالكتابة في المداينة إلى أجل مسمى، وبالأشهاد في التجارة المدارة"، كما أمر الشهداء ألا يأتوا أمرا مستويا، ثم أكد تعالى أشد تأكيد ونهانا عن أن نسأم في كتابة ما أمرنا بكتابته صغيرا كان أو كبيرا. وأخبر تعالى أن ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا نرتاب، وأسقط الجناح (الإثم) في ترك الكتابة خاصة ـ دون الأشهاد ـ في التجارة المدارة، ولم يسقط الجناح (الإثم) في ترك الكتابة فيما كان دينا إلى أجل .. فقد قال تعالى بعد أن فرض الكتابة: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ }.

وجمهور الفقهاء يرون أن الأشهاد في البيع والكتابة في التداين، والكتابة في الثمن المؤجل ليست من الفروض الواجبة بحيث يأثم تاركها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع ذلك، وقد اشترى فرسا من إعرابي، ولم يشهد ولم يكتب، فباع الإعرابي الفرس مرة ثانية لمشتر بثمن أعلى..!

ويرى ابن حزم أن خبر الإعرابي ضعيف السند، وهو إن صح فدليل على وجوب الأشهاد والكتابة، ويجب أن تكون هذه القصة قد وقعت قبل نزول الآية، ولعلها هي ومثيلاتها كانت من أسباب نزول الآية.

ـ لا يجيز خيار الشرط وهو حق البائع أو المشتري في الفسخ خلال مدة معينة. ويقول ردا على جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى جواز هذا الخيار: "كل بيع وقع بشرط خيار للبائع، أو للمشتري أو لهما جميعا، أو لغيرهما، خيار ساعة أو يوم أو ثلاثة أيام، أو أكثر أو أقل، فهو باطل" .. ويضيف: "كل ذلك شرع لم يأذن الله تعالى به، ولا أوجبته سنة ...

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط) ..

وكان دليل جمهور الفقهاء على إجازة الشرط أن أحد الصحابة كان يغبن في البيع والشراء، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يعقد صفقة حتى يشترط لنفسه الخيار في إبرامها أو فسخها خلال ثلاثة أيام ليشير من هو أعرف منه بأمور التجارة.

فرد ابن حزم لأن هذا حكم خاص بحالة ذلك الصحابي، ولا يجوز اعتباره حكما عاما.

ـ لا تحريم إلا بنص فما هو ذريعة إلى حرام ليس حراما، وقد نهى الله عن تحريم ما لم يحرمه هو، وإلا كان هذا التحريم افتراء على الله .. قال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ٱللَّهِ تَفْتَرُونَ }( يونس ، الآية : 59 ) ولكن الإمام مالك والإمام احمد بن حنبل ومن اعتنق مذهبيهما يقسمون الشريعة إلى مقاصد وذرائع. فالمقاصد هي هدف الشريعة، وهي تحقيق المصلحة ودرء المفسدة. والذرائع هي الوسائل أو الوسائط المؤدية إلى المقاصد. والذرائع ترتبط بالمقاصد تحليلا وتحريما. وعلى هذا فلا يجوز بيع السلاح في وقت الفتنة، ولا يصح البيع الذي يخفي ربا أو يؤدي إليه، ويبطل الزواج المؤقت الذي يكون وسيلة وذريعة لتحليل الزوجة المطلقة ثلاثا. فكل تصرف قصد به الحرام أو أدى إلى مفسدة يعتبر باطلا وقد أمر به النبي عليه الصلاة والسلام ألا تقطع يد السارق في الغزو حتى لا يفر إلى العدو.

ويرد ابن حزم على كل هذا بقوله: "أن السنة يجب أن تطبق لأنها سنة دون محاولة تخريج أو تعليل أو قياس عليها فهي نص واجب اتباعه بظاهره، أما من حكم، باحتياط أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد، فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل، وهو حكم بالهوى وتجنب للحق، نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا. مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض، لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد، وإذا حرم شيئا حلال خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوفا أن يزنوا، وليقتل الناس خوف أن يكفروا، ولتقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر. وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض، لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها، وبالله تعالى التوفيق".

وهكذا استنفر من جديد اتباع الإمام مالك، واستنفر أيضا اتباع الإمام احمد بن حنبل، بوصفه فاستنكروا الزعم بأن مذهب كل من الإمامين هو أفسد مذهب في الأرض! .. وغلظوا مع ابن حزم واشتدوا عليه.

ـ تصح شهادة الأصول والفروع والأزواج ماداموا عدولا. وهاجم الفقهاء الأربعة أصحاب المذاهب الذين لم يجيزوا هذه الشهادة، حرصا على العدل ودفعا لشبهة الانحياز، فقال عن الفقهاء أصحاب المذاهب: "لقد أداهم هذا الأصل الفاسد إلى أن حكموا في الشيء بالتهمة التي تحل، فأبطل شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم، تهمة لهم بشهادة الزور والحيف. والحكم بالتهمة حرام لا يحل، لأنه حكم بالظن، وقد قال تعالى عائبا لقوم قطعوا بظنونهم:

{وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً}( الفتح ، الآية : 12 ) .

وقال تعالى عاتبا قوما قالوا:

{إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }( الجاثية ، الآية : 32 )

قال تعالى:

{ وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً }( النجم ، الآية : 28 ) .

وقال تعالى:

{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } ( النجم ، الآية : 23 ) .

 

عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّهصلى الله عليه وسلمقال: "إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث " .

هاهو ذا من جديد يسرف في الهجوم على الأئمة الكبار أصحاب المذاهب، ويستثير أتباعهم ضده، ويجلب عليه سخط أهل الورع ممن يروعهم أن يتهم الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي واحمد، بالتناقض والتخاذل والتفاسد .. وأنهم يتبعون هوى الأنفس!

ـ ومما خالف فيه إجماع الفقهاء قوله أن العبد كالحر في حق الزواج بأربع، وقد اقترب من الإمام مالك في هذا النظر، ولكنه هاجمه حتى في اتفاقه معه..! واتهم الإمام مالك بن أنس بالتناقض، لأنه خالف في حكمه هذا أقوالا لبعض الصحابة لم يعرف لها مخالف. ومالك يعتبر هذا إجماعا يجب اتباعه فكيف يخالفه؟ وكان أحرى بمالك في رأي ابن حزم ألا يعتبر إجماعا إلا ما تواترت الأخبار الصحاح على أن الصحابة أجمعوا عليه يقينا.

وعلى أية حال فقد خالف ابن حزم آراء مالك وغيره من الأئمة أصحاب المذاهب فيما عدا هذا من أحكام العبد، فاعترف له بحق تملك الجواري والتسري بهن، وبكل حقوق الملكية. لأن حق الملكية يرتبط بالإنسانية لا بالحرية، ولا شأن له بما يطرأ على الإنسان من عبودية. فالعبد والحر متساويان، وقد وجه إليهما الله تعالى خطابه في القرآن الكريم بلا تفرقة فقال:

{يا أيها المؤمنون}

أو (يا أيها الناس)، ولم يقل: (يا أيها الأحرار) ولا: (يا أيها العبيد)، وعلى هذا جرت السنة، فللعبيد كل حقوق الأحرار، ولا فرق بينهما إلا فيما جرت به السنة في الحدود، فعلى العبد نصف ما على الحر من عقوبات، وليس لأحد أن يشرع مع الله ورسوله أو بعد القرآن والسنة. والقول بأن للعبد نصف ما للحر خروج على الشرع.
عندما أثار ابن حزم حقوق العبيد، قامت عليه القيامة من جديد .. فهاهو ذا يدعو إلى المساواة بين العبيد والسادة بل يميز العبيد فيفتي بأن لهم كل حقوق السادة ونصف ما على السادة من عقوبات!

فهو إذن يثير العبيد على سادتهم!

ومن قبل أثار العاملين في الأرض على الملاك! .. والنظام في الأندلس يقوم على وضع أدنى للفلاحين، والعاملين في الأرض والعبيد..!

غير أن ابن حزم يرى أن هذا كله ليس من الإسلام في شيء، فهو خروج صريح على نصوص القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

واحتشد على ابن حزم كل خصومه من الأمراء والكبراء والوزراء الذين جهر بنقدهم، ومن العلماء والفقهاء الذين عنف عليهم في الذم، واحتشد معهم كل من استفزتهم حدته في الحديث عن الأئمة أصحاب المذاهب.

تكاثر الخصوم على ابن حزم فدبروا له أمرا، وأغروا به الحكام لينزلوا به جزاء الخارج عن الدين، ومثيرا الفتنة!

لم يعد له من أحد في الأندلس إلا بعض شباب العلم وطلابه، وإلا أمير ميورقة.

أما هؤلاء الشباب فكانوا معجبين بجسارته، ونصاعة بيانه، وشدة تمسكه بالقرآن والسنة، وحرصه على ألا يستنبط الحكم أو يستخلص الفتيا إلا من ظاهر النص، في وقت شيوع البدعة والتقليد وتجمد العقل.

وما كان الشباب يغضبون من عنفه على أئمة المذاهب، لأن سقم الفكر، وإفلاس الملكات، والضحالة، قادت البعض إلى تقديس هؤلاء الفقهاء، فنسوا أنهم بشر يخطئون ويصيبون!! فكان لابد للناس من فقيه عالم، كابن حزم يصدم جهودهم، ويحرك صمت الحياة الفكرية الرتيبة الآمنة من حولهم، وينبه الغافلين والمقلدين، ويعيدهم إلى القرآن والسنة، ويلزمهم اتباع النصوص!

ومهما يكن من عنف ابن حزم الذي وصل إلى حد النزق كما عبر هو عن نفسه، فما كان هذا كله ليصرف عنه الشباب، بل كان يشاكل ما في أعماقهم من فورة الحمية والغيرة والحماسة..!

وأما النصير الآخر الذي كان لابن حزم غير هؤلاء الشباب، فهو أمير ميورقة صديق ابن حزم وما كان لأحد أن ينال من ابن حزم وهذا الأمير يبسط عليه رعايته .. وهو أمير شديد المروءة، عظيم النجدة، وهو بعد صاحب نفوذ كبير وعلاقات حسنة، فالكل يخطب وده.

غير أن أمير ميورقة مات فجأة، وهو أنضر ما يكون عافية، وأشد ما يكون قوة..! وأصبح ابن حزم في ميورقة بلا ولي ولا نصير: الأحزان تمزق منه القلب، والفكر مضطرب، وهو يتوجس خيفة مما عسى أن يصنعه به الأعداء من الأمراء، والفقهاء، وكبار الملاك، وتجار العبيد، وكل من أسخطهم عليه من قبل!

ولكنه استمسك، واعتصم بالصبر والمصابرة، وعاد إلى حلقته يعلم الشباب ويحاورهم ويحاورونه كما تعود.
وجد العزاء في العمل، وفي العودة إلى الحلقة، فما من شيء يشرح صدره للحياة كنعمة التعبير عن أفكاره بالكتابة، وكالجلوس إلى الشباب .. فهو يجد فيهم أمله في الإصلاح..!

ما من إنسان في الأندلس يرتاح إليه بعد، كما يرتاح إلى هؤلاء الشباب الذين يأنس فيهم الصفاء، والطهر، والغيرة، وصدق المودة، والشوق المحتدم إلى الخلاص، وإلى بناء عالم من العدالة والحق والخير على دعائم من تعاليم الإسلام!

إنهم ليريدون أن يعرفوا الطريق، وأنه ليحمد الله أن قيضه لهم ليقودهم إلى الحق وما كان عنفه ليغير عليه قلوب الشباب، بل كان على النقيض، فهو يوافق ما في أغوارهم من احتدم، ويشاكل ما في طبيعتهم الفتية من غيرة للحق وشدة على الباطل. وكان في هذا العنف رجع لحماسة أولئك الشباب.

وأما النصير الآخر الذي يعتزم ابن حزم مع هؤلاء الشباب، فهو صديقه أمير ميورقة. وما كان لأحد أن ينال من ابن حزم والأمير يبسط عليه كل حمايته ورعايته! .. وهو أمير شديد المروءة، عظيم النجدة، واسع النفوذ، قوي الشكيمة، يخطب وده سائر الأمراء والفقهاء والرؤساء.

وكان ابن حزم يشعر بالطمأنينة والسكينة تحت رعايته، ويستجم من عناء العمل في مجلسه. وكان الأمير غزير العلم، ظريفا، طيب المعشر، حلو الأحاديث، وكان يسري عن ابن حزم برواية ما يحفظ من طرائف وأخبار عن منافسيه من الفقهاء، وقد روى لابن حزم قصة صوفي من أهل الأندلس، عرف بالعداء لابن حزم وبالصلاح وكثرة السياحة والتجوال. وقد سافر الصوفي إلى مصر في بعض سياحاته وعندما عاد روى للأمير عجبا عن رحلته تلك: "كنت بمصر أيام سياحتي فتاقت نفسي إلى النساء" فذكرت ذلك لبعض إخواني فقال لي: "هاهنا امرأة صوفية لها بنت مثلها جميلة قد ناهزت البلوغ. فخطبتها وتزوجتها، فلما دخلت عليها وجدتها مستقبلة القبلة تصلي، فاستحييت أن تكون صبية في مثل سنها تصلي وأنا لا أصلي، فاستقبلت القبلة وصليت ما قدر لي، حتى غلبتني عيني، فنامت في مصلاها، ونمت في مصلاي" فلما كان في اليوم التالي، كان مثل ذلك أيضا، فلما طال الأمر علي، قلت: "يا هذه ألا اجتماعنا معنا؟ قالت: "أنا في خدمة مولاي، ومن له حق فما أمنعه". فاستحييت من كلامها، وتماديت على أمري نحو الشهر، ثم بدا لي السفر فقلت لها: "يا هذه" قالت: "لبيك"، قلت: "إني أردت السفر"، فقالت: "مصاحبا بالعافية". فقمت فلما صرت عند الباب قامت فقالت: "يا سيدي كان بيننا في الدنيا عهد لم يقض الله بتمامه، عسى في الجنة إن شاء الله يقضى بتمامه". فقلت لها: "عسى الله"، "أستودعك الله خير مستودع" فتودعت منها وخرجت ثم أكملت سياحتي في بلاد الله وعدت إلى مصر بعد سنتين فسأل عنها فقيل لي: "هي على افضل ما تركتها من العبادة والاجتهاد فلم أفكر في زيارتها!".

هكذا كان الأمير يسامر صديقه ابن حزم ويخفف عنه برواية ما يعرف من الطرائف عن خصومه من الفقهاء والمتصوفين.

كان الأمير يؤنسه، ويسري عنه، ويصونه من عاديات الخصوم، ومكائد الحساد، وبغي الشانئين.

ولكن الأمير مات فجأة، وهو أنضر ما يكون عافية وأشد ما يكون قوة، وأعذب ما يكون ظرفا!

وأحس ابن حزم، كأنما يد باطشة تلوي عنقه، وتدق عظامه، وتلقي به بغتة في عراء مخيف لا ظل فيه ولا ماء، ولا شيء غير جوارح الطير، والوحش، والهوام السامة!!

لقد أصبح الشيخ في ميورقة بعد طول الأنس والمتعة وحيدا بلا ولي ولا نصير: الأحزان تمزق منه القلب، والفكر مضطرب، يتوجس خيفة مما عسى أن يصنعه به الأعداء من الأمراء وصغار الفقهاء وكبار ملاك الأرض والنخاسين..!

ولكنه استطاع على الرغم من كل شيء أن يجمع شتات نفسه التي توزعتها الأحزان، وأن يواجه العاديات بكل القوة التي يمنحها الإيمان بالله، فكفكف دمعه العصي الذي انهمر يخضل لحيته الشهباء حزنا والتياعا على صديقه الأمير.
أذعن ابن حزم لقضاء الله فصبر وصابر، وعاد إلى حلقة الدرس يعلم الشباب الذين التفوا حوله أكثر مما التفوا من قبل، لا يخشون فيما يؤمنون به لومة لائم، ولا يبالون في حبهم لشيخهم بما قد ينزل بهم من بطش خصومه..!!

وجد العزاء في العمل، وفي لقاء هؤلاء الفتية طلاب علمه من أهل الجسارة والمروءة.

ما من شيء كان يستطيع أن يشرح صدره للحياة والمستقبل كهذا الحب في الله يعمر قلوب شباب مؤمنين تضطرم أعماقهم بالأشواق الطيبة إلى بناء عالم من العدالة والخير والفضائل على دعائم من تعاليم الإسلام.

وما من شيء كان قادرا على أن يضيء بالبهجة قلبه الحزين، ويعيد الثقة إلى نفسه المضطربة، كاستغراقه المخلص في الكتابة مواجها ضلالات العصر، وعلى شباة قلمه يتناثر الشرر يحمل اللهب المتأجج في أطواء نفسه، وينير الطريق إلى الحق أمامه وأمام الآخرين..!

ويا لله كم ارتفع قدر ابن حزم في ميورقة وما حولها، حتى لقد توافد عليه الطلاب والباحثون عن الحقيقة من كل أقطار الأندلس، فأصبحت له الرئاسة على الناس..!

ولكن خصومه يجدون منذ اليوم في الإيقاع به، والكيد له عند سائر الأمراء، بعد أن مات نصيره ووليه أمير ميورقة ..

وذات صباح فوجئ ابن حزم بأمر جليل من أمور الأندلس لم يستطع عليه صبرا .. وكانت أمور السياسة في الأندلس قد آلت إلى فضائح كما قال أحد مؤرخي ذلك العصر: "صار الأمر إلى الأخلوقة والفضيحة: فهناك أربعة حكام كلهم يسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخا في مثلها .. ومنهم من لا يصحب إلا كل ساقط رذل ولا يحجب عنهم حرمه (أي نساءه) ..

من بين هؤلاء الأربعة الذين يزعم كل واحد منهم أنه هو الخليفة ويسمي نفسه أمير المؤمنين، نهض أمير أشبيلية يحاول الوثوب على الإمارات الأخرى ليضمها إلى ملكه، واستبد بالأمر وبطش بأهل الشورى، وفتك بمن يعارضه، حتى لقد طارد أحد معارضيه الذين فروا منه إلى الحجاز وهو عالم كفيف فأرسل الأمير من يدس السم للرجل، فمات..!

قام حاكم أشبيلية يدعو أهل الأندلس إلى مبايعته هو وحده خليفة على الأندلس كله وأمير المؤمنين، وأدعى أنه هو الخليفة الأموي المقتول هشام ابن الحكم المؤيد!!

وعندما بلغ ابن حزم ما يدعيه أمير أشبيلية أذاع الشيخ على الناس: "أخلوقة لم يقع مثلها في الدهر، فإنه ظهر رجل بعد اثنتين وعشرين سنة من موت هشام ابن الحكم المؤيد، وأدعى أنه هو، فبويع له، وخطب على جميع منابر الأندلس في أوقات شتى، وسفكت الدماء، وتصادمت الجيوش في أمره."

وجن أمير أشبيلية حنقا على ابن حزم، وأمر الشرطة أن تأتي به من ميورقة، ولكن أحدا لم يستطع أن يقتحم عليه أو يفضي إليه!

لقد حماه الشباب الذين بهرهم علمه وإخلاصه، وجموع الفلاحين الذين يدافع عن حقهم في الأرض، فتحصن في قلعة منيعة من حب المعجبين به .. وفكر أمير أشبيلية في أن يكيد له كيدا يسقطه أمام محبيه، فيسهل على الأمير بعد ذلك أن يفتك بالشيخ في معزل عن حصنه الحصين!

وكان صغار الفقهاء يغرون به، ويريدون التخلص منه، وخصومه وحساده يفتون بإهدار دمه..!

واتفق أن أبا الوليد الباجي الفقيه الأندلسي عاد إلى الأندلس بعد رحلة طويلة في المشرق استغرقت نحو ثلاثة عشر عاما .. وكان الباجي فقيها غزير العلم، ولكنه كما قال عنه أحد معاصريه "كان مشهورا بأنه يجالس الرؤساء ويمدحهم بشعره ويسترضيهم حتى ينال جوائزهم، وكانت عليه مطاعن في دينه".

هاهو إذن الرجل الذي يستطيع أن يقذفه الأمير على الشيخ ابن حزم: ففيه واسع العلم يقبل أن يوجه علمه إلى ما يرضى الأمير..!

ولاذ صغار الفقهاء من أعداء ابن حزم بالفقيه الباجي، واجتمعوا كلهم عند أمير أشبيلية وأحكموا الخطبة التي يسقطون بها ابن حزم أمام المعجبين به والملتفين حوله .. فما هي إلا أن يناظره الباجي ويفحمه في المناظرة حتى تسقط هيبته ويتخلى عنه الجميع!!

قدم الباجي إلى ميورقة في موكب ضخم من أهل الوجاهة وصغار الفقهاء أعداء ابن حزم، وعدد كبير من محترفي الشغب، وأهل الابتزاز ومحترفي الإرهاب ورجال الشرطة السرية!

وذهب الباجي في موكبه ذاك إلى حلقة ابن حزم في جامع الجزيرة، وأغرى عددا من الفقهاء الذين صحبوه ليجادلوا ابن حزم فينهكوه، ويستفزوه بالافتراءات والتهجم عليه حتى يفقد السيطرة على نفسه قبل أن يبدأ الباجي مناظرته..! ولكن ألسنة الفقهاء قصرت عن مجادلة ابن حزم وكلامه .. فتقدم الباجي يناظره، فأفحمه ابن حزم، فأراد الباجي أن يمكر به وأن يحرض عليه فقراء الطلاب والفلاحين من وراد الحلقة فقال: "تعذرني فأكثر مطالعاتي كانت على سرج الحراس" .. فرد ابن حزم: "وتعذرني فاكثر مطالعاتي كانت على منابر الذهب والفضة.." وصفق اتباع ابن حزم طربا ..

وخرج الباجي في موكبه، وظل ليلته يعد مع أنصاره الشراك لابن حزم.

وفي اليوم التالي أقبلوا إلى الحلقة، وبدأت المناظرة، ولم يكد الباجي ينتهي من كلامه حتى وثب أنصاره فصفقوا وتصايحوا إعجابا بما قال .. وجاء دور ابن حزم ليرد، ولكنهم قاطعوه بالصفير والزعيق والسخرية والضحكات والتهريج عليه، وغمر صخبهم المكان، ولم يمكنوا ابن حزم من الكلام إذ ضاع صوته وسط الشغب والتهريج، فعزف عن الاستمرار في المناظرة.

وقام من المسجد آسفا، فأعلنوا انتصار الباجي، وانكسار ابن حزم .. وظلوا يطاردون ابن حزم بصياحهم وشغبهم: "أبو الوليد الباجي ناظر ابن حزم، فانكسر ابن حزم أمامه".

أوى ابن حزم إلى داره لا يبارحها مدة يومين، وصدى أليم من سخرية المشاغبين يلح عليه، وأعداؤه يحتلون حلقته ويصرفون عنها مريديه.

ثم جاءه من يخبره أن أمير المؤمنين (وهو أمير أشبيلية) أصدر أمره بمنع تداول مؤلفات ابن حزم، وجمعها كلها من خزائن الكتب العامة والخاصة في جميع بلاد الأندلس!!

وما هي إلا أيام حتى أحرقت مؤلفات ابن حزم في جمع من أعدائه وحساده وشانئيه وضحكاتهم الشامتة تتعالى في جنون وحشي..!

أية قارعة هذه التي نزلت بالرجل في شيخوخته..! إنها لقاصمة الظهر..! إنه الآن ليقرع أبواب الستين، وما من عزاء بعد، ولا عوض عما ضاع، لا هو يستطيع أن يكتب من جديد بعض هذه الصفحات الطوال التي أودعها كل روعة حياته، والدمع، والضنى، والمعاناة، والأمل والبهجة، وحبات القلب..!

ولكنه استطاع..!

ازدرد الدمع النازف من جراحاته، واستعلى على النكبة، وواجهم من علياء صموده بشعره يتحدى:

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي يسير معي حتى استقلت ركائبي تضمنه القرطاس، بل هو في صدري
وينزل إن أنزل، ويدفن في قبري

واستقلت ركائبه .. ترك ميورقة الجزيرة التي عرف فيها حلاوة الأمن وطيب الألفة. ترك ميورقة بعد أن تحولت طرقات الجزيرة إلى مرابض للمتربصين، وأصبحت حلقات العلم فيها فخاخا ومصائد..!

ومضى في ركب حزين من أهله وجواريه وخزانة كتبه .. إلى حيث لا يعلم أحد مكانه، ولا يلقي أحدا من الناس!!
"
وطفق الحكام يقصونه عن قربهم ويسيرونه عن بلادهم" كما قال أحد مؤرخيه (أبو حيان) اختفى زمنا، ثم سار إلى القرية التي ولد فيها أباؤه قبل أن يستوطنوا قرطبة، حيث تركوا له ضيعة يكفيه دخلها ويوفر له حياة ميسرة، وحيث مازال يعيش أقرباؤه..

وفي أحضان ذلك الركن الهادئ من ريف الأندلس، بين الفلاحين الذين أحبوه وعرفوا فيه قبل أن يلقوه مناضلا عن حقوقهم، قرر ابن حزم أن يعيش ما بقى له من العمر.

لم تكن النار التي التهمت كتبه قد استطاعت أن تمس شموخه ولا إصراره .. فمازال قادرا على أن يبدأ من جديد على الرغم من كل شيء!

لا بطش أمير أشبيلية ولا بغي كل أعدائه، ولا المكر السيئ، ولا شيء على الإطلاق يستطيع أن يمتد إلى تلك البقعة الهادئة أو ينال منه .. فلا سلطان لأمير أشبيلية على هذا المكان الجميل من ريف الأندلس، ولا رأي لفقيه هنا إلا رأي ابن حزم: ابن القرية وحامي العاملين فيها.. وعلى وهج النار التي التهمت مؤلفات، أضاءت نفسه بالإصرار وإرادة التعبير.

وعاد يلتقي بشباب آخرين .. فقد توافد عليه الشباب من القرية ومن كل أرجاء الأندلس، وقد زادهم صمود الشيخ في محنته إعجابا به .. وفاضت عيناه العصيتان من الفرح حين أخرج إليه بعض هؤلاء الشباب مؤلفاته التي أخفوها فنجت من الحريق! .. وأخذوا ينسخوها بهمة عالية متحدية، ويوزعونها خفية في كل أقطار الأندلس، وخارجه ..

نسخوا ووزعوا من هذه الكتب الناجية من الحريق أضعاف ما كان موجودا من قبل!

وبدأ الشيخ يملي عليهم ما احترق من المؤلفات، ويؤلف كتبا جديدة. وفي قريته النائية حيث لا يصل إليه فحيح العداء، ولا صخب الحساد، وحيث تقصر عنه يد الحكام، وحيث حب الناس يعمر نفسه بالصفاء، وحيث كل ما حوله من جمال الطبيعة وطيبة القلوب يعمر نفسه بالأمل، ويقنعه بأن الحياة جديرة بأن نحياها، وبأن نجعلها متاعا حلالا للآخرين هناك في هذا الهدوء النابض بروعة المودة، واستطاع ابن حزم أن يحكم مؤلفاته التي أعاد كتابتها بعد احتراقها والتي صنفها .. وكانت مناظراته مع مريديه في جو مترع بالمحبة سبيله إلى الإتقان ..

لقد عاش كل حياته السابقة يستنبط الأحكام من ظاهر النص، فهاهو ذا الآن يستخلص الحكمة من باطن النفس..!
إنه ليفهم ظاهر النصوص بكل معانيها الصريحة والمجازية، بلا نظر في الدلالات والإشارات الخفية، وهو في الوقت يستبطن خفايا النفوس وأسرار الدلالات ولطف الإشارات ليصوغ أفكاره في الأخلاق والفلسفة وسائر الإنسانيات.
وتأسيسا على هذا النظر أحكم فقه وأصوله، وسائر آرائه في الحياة والناس.

وهكذا أتقن إيراد كثير من أحكام والآراء التي خالف بها كل من سبقه، أو سبق هو بها كل من جاء بعده من أهل الفكر، من خلال أسلوب ناصع، بطريقة يجذب بها انتباه القارئ أو السامع، فهو يعرض الآراء التي يخالفها بما لديها من حجج وأدلة، ثم يناقشها ويرد على أدلتها، ثم يسوق أدلته هو ويرد على ما عسى أن يثار ضد هذه الأدلة والحجج، ثم يخلص إلى النتيجة مؤيدة بالبراهين ..

وقد أوردنا فيما سبق كثيرا من هذه الأحكام والآراء.

ولكنه صقل هذا كله في قريته وقدم بعض الإضافات.

وكان من قبل قد كرر أنه لا يحسن الظن بالمرأة، وهو يعني المرأة التي لا شغل لها في الحياة العامة، ولا تنشغل حتى بمنزلها وتربية أولادها، فهي لابد أن تنزع في فراغها هذا إلى دواعي الغزل، وإلى المعصية، ثم إلى الفساد .. والرجال والنساء في ذلك سواء.

على أنه يفتي بأن المرأة شرعا تستطيع أن تتولى الوظائف العامة بلا استثناء إذا كانت صالحة قادرة مؤهلة لتولي هذه الوظائف ..

أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعن الله قوما ولوا أمرهم امرأة"

فهو إنما يعني الخلافة أو الإمامة فحسب، فالخليفة يجب أن يكون رجلا .. أما فيما عدا الخلافة فالمرأة الصالحة لها حق ولاية أي أمر من أمور المسلمين . عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) متفق عليه.. "وذكر الحديث أنواع الرعاة ومسئولياتهم فذكر المرأة: والمرأة راعية وهي مسئولة عن رعيتها" .. فضلا عن أنه لم يرد نص في القرآن أو السنة، يحرم على المرأة تولي أمور المسلمين فيما عدا الخلافة.

وذهب ابن حزم إلى أن المرأة إذا تفقهت في الدين وجب على الرجال أن يأخذوا عنها وقال: "وهؤلاء أزواج النبي قد نقل عنهن أحكام الدين، وقامت الحجة بنقلهن، ولا خلاف في ذلك.." .. "فالمرأة تستطيع أن تتولى القضاء والإفتاء وأن ترأس الرجال في عملهم، وأن تدرس لهم".

ونظر من جديد في وضع العبيد والجواري فأكد أنهم لا يختلفون عن الأحرار في صفة أو موهبة وأن العبودية ليست ذنبهم، ولا هم الذين جروها على أنفسهم، وبينهم من هو أتقى وأذكى وأصلح من الأحرار، وقد ولى أمور المسلمين في المشرق من أبناء الجواري خلفاء كانوا صالحين وبناة حضارة، وما ذلك إلا لأن أمهاتهم الجواري قد أحسن تربيتهم، وما ولى الأندلس من هو ابن حرة قط، فكل حكام الأندلس منذ الفتح من أولاد الإماء لقد كان منهم خلفاء عظام.

فإذا تاق العبد إلى الحرية فليس لمالكه أن يحرمه منها، وعلى ولي الأمر أن يحمل المالك على تحرير المملوك .. وفي ذلك قال ابن حزم: من كان له مملوك مسلم، أو أمة مسلمة فداء أو دعت إلى الكتابة، فرض على السيد الإجابة على ذلك .. ويجبره السلطان على ذلك .. وذلك بما يعرف بأن المملوك العبد أو الأمة يطيقه "أي بالسعر الذي يطيقه من يطلب العتق أو التحرر .. وهو سعر يراعي فيه أمران: ألا يجحف بمالك العبد أو الأمة، وأن يطيقه العبد وتطيقه الأمة، فإذا اختلف الطرفان تدخل السلطان ليجبر المالك على عتق المملوك أو المملوكة.

ويحدد السلطان السعر العادل .. وبرهان ابن حزم على هذا هو نص الآية الكريمة: {ِوَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ} ( النور ، الآية : 33 ) .

ومالك الرقيق الذين يعجزون عن تحرير أنفسهم مأمور شرعا بأن يعاملهم كما يعامل أبناءه وذوي قرباه في كل أمور المعاش ..

وكان ابن حزم قد نفض يديه من الحكام ليأخذ بيد المحكومين، ويئس من إصلاح الرعاة فاتجه إلى الرعية يعرف الناس بحقوقهم على ولي الأمر، وأفتى بأن السلطان مطالب شرعا بأن يوفر لرعيته حد الكفاية من المأكل والملبس والمسكن ودابة الركوب .. هذا هو رأي إمام مصر الليث ابن سعد .. وزاد ابن حزم أنه ما من شيء يضطر المسلم إلى أن يأكل من حرمه كالميتة والدم ولحم الخنزير .. فالمسلم لا يضطر إلى هذا أبدا إلا إن عضه الجوع وهو في خلاء ولم يجد غير هذا الطعام المحرم .. أما المسلم في بلده فولى الأمر مسئول عن إطعامه، فإذا لم يكن في بيت المال ما يكفي لإطعام الجياع، فعلى السلطان أن يفرض في أموال الأغنياء ما يكفي لمواجهة حاجات الفقراء .. فإذا لم يفعل السلطان أي ولي الأمر، فقد أثم وجاز للجائع أن لم يجد طعاما، أن يقاتل على هذا الطعام من لديه طعام لا يحتاج إليه، فإن قتل الجائع فهو شهيد وعلى قاتله القصاص، وإن قتل مانعن الطعام فهو في النار ولا قصاص!

وأفتى بأن تعاون الجيران ليس من مكارم الأخلاق إن شاء الجار أتاها أو تركها، بل هو تكليف شرعي بنص القرآن: "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون" .. والماعون هو ما يقترضه الجار المحتاج من جاره كالأواني ودواب الركوب وأدوات الزرع والحرث ونحو ذلك.

وأفتى في الماء: "لا يجوز بيع الماء بوجه من الوجوه لا في ساقية ولا من نهر أو من عين أو من بئر ولا في صهريج ولا مجموعا في قربة ولا في إناء .. ولا يملك أحد الماء الجاري إلا مادام في ساقيته ونهره، فإن فارقهما بطل ملكه عنه وصار لمن في أرضه، وهكذا أبدا .. أما من حفر بئر بعمله وماله فهو أحق بمائها مادام محتاجا، فإن فضل عنه ما لا يحتاج إليه لم يحل له منعه عمن يحتاج إليه، وكذلك فضل النهر والساقية .. ومن استسقى قوما ولم يسقوه وهم يعلمون أنه لا ماء له البتة فهم قاتلوه عمدا، وعليهم القود (القصاص) بأن يمنعوا الماء حتى يموتوا كثروا أو قلوا .. وهكذا القول في الجائع والعاري .. ولا فرق.

وقد فرض ابن حزم على كل صاحب إبل وبقر وغنم "أن يحلبها يوم ورودها على الماء ويتصدق من لبنها بما طابت به نفسه" .. فقد جاء في الحديث الشريف: "تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط حقها تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها .. ومن حقها أن تحلب على الماء".

في أموال القادرين حقوق غير الزكاة، وهذه الحقوق واجبة الأداء، وليس أداؤها من باب التطوع .. قال: "وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك".

أما ما سبق به المفكرين الذين جاءوا من بعده، فتلك أمور تمس بواطن النفوس وخصائص الأشياء ومظاهر الطبيعة:
ـ من ذلك أنه اهتدى إلى نظرية في المعرفة تقوم على مزج بين الفطرة والتجربة بين البديهة والحس .. ويلخص نظريته هذه بقوله: "إن العلم بالضرورة أو بالعقل راجع إلى الحس".

فالإنسان يعرف أشياء بالبديهة أو الفطرة ويصقل علمه بالحواس وهو ما يختزنه بإدراكه الحسي في زمن سابق، ويحكم هذا بالتجربة .. فهذه هي المعرفة.

وهذه نظرية في المعرفة اكتملت بعد ذلك بقرون .. وكان الأوربيون في عصر ابن حزم يقرأون كتاباته وكان المتعلمون في جنوب فرنسا وإيطاليا وما يليها لا يعتبرون حقا إلا أن يعرفوا العربية.

ومن ذلك أنه اهتدى في وقت مبكر جدا إلى أن الأرض كروية وقد وصل إلى هذا الرأي من فهمه لظاهر آية في القرآن الكريم فكتب يقول: "إن أحدا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم دفعه كلمة .. بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها، قال الله عز وجل:

{يُكَوِّرُ ٱللَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱللَّيْلِ} (الزمر ، الآية : 5 ) .

.. وهذا أوضح بيان تكوير الأرض ..

ـ ومن ذلك رأيه في أن الجزيء قابل لأن يتجزأ .. وعن الجزيء (أي الذرة) .. يقول ابن حزم: "ليس في العلم جزء لا يتجزأ، وإن كل جزء انقسم الجسم إليه فهو جزء أيضا وإن رق أبدا .. وأن كل شيء يحتمل أن يكون على أجزاء كثيرة فبالضرورة ندري أنه يحتمل أن يجزأ إلى أقل منها.."

ويرى الأستاذان عبد الحليم عويس واحمد عبد الوهاب أنه سبق بهذه الآراء العلماء المفكرين حتى القرن العشرين.
على أن ابن حزم لم يسلم من الهجوم على الرغم من اعتزاله الناس في قريته .. فهاهو ذا يذيع كل الآراء التي ظن الناس أنها اختفت بعد أن أحرقت كتبه..! هاهو ذا يحكم آراءه لتصبح أكثر ذيوعا من قبل! وهاهو ذا يصنف مؤلفات جديدة، وأن الشباب ليلتفون حوله أكثر مما التفوا في أي وقت مضى .. لا يسمعون قول فقيه غيره..!!

زادت الثورة عليه، واتهموه مرة أخرى بأنه يحرض الفقراء والجياع والعراة على الأغنياء! واتهموه بأنه يبيح الماء من لا حق لهم فيه، ويحرض العبيد على إكراه السادة لتحريرهم .. وهو بعد يهاجم بعض الفقهاء والذين يزعمون أن الأرض تقف على قرن ثور ويتهمهم بأنهم يشيعون الخرافات التي تجعل الشباب يرفضونها إلى الإلحاد فهؤلاء الفقهاء هم المسئولون إذن عن إلحاد الآخرين! .. ثم إنه يقنع هؤلاء الشباب بأن الأرض كروية، ويسترضي الأبناء غير الشرعيين الذين أوجدتهم ظروف المجتمع الفاسد ويعتبرهم ضحايا فساد المجتمع، فيجب لهم حسن الرعاية، ويفتي بمساواتهم بالأبناء الشرعيين.

واتهمه خصومه من جديد بالخروج على الدين، وإثارة الفتنة .. واتهمه بعضهم بالجمود لوقوفه عند ظاهر النص، فأغلظ في الرد عليهم جميعا، واتهمهم بأنهم جهلاء مراءون منافقون يساندون الحكام ويمدحونهم بغير ما فيهم ويزنون لهم البغي والظلم والانحراف عن الإسلام للحصول على الجوائز والأموال والمناصب والاقطاعات!!

وعلى الرغم من استعار الخصومة بينه وبين الفقهاء من متبعي المذاهب، فقد ظل مع ذلك يعمل ويعلم، حتى لقد كتب في قريته تلك ما يزن حمل بعير منها كتاب "الأنعام في أصول الأحكام".

وهو مصنف في أصول الفقه من ثمانية أجزاء وقد قال عنه المغفور له الشيخ احمد شاكر أحد أعلام الشريعة والفقه في القرن الرابع عشر الهجري: هذا الكتاب النفيس لم تر عيني مثيله في علم الأصول.

ولكنه إذ رأى ما يعانيه من أهل زمانه كتب وكأنه يعزي نفسه وسائر المخلصين من أهل العلم والفقه والفكر.
"
أزهد الناس في عالم أهله، وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال: (لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده) .. وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من قريش، وهم أوفر الناس أحلاما، وأصحهم عقولا، وأشدهم تثبتا، مع ما خصوا به من سكناهم افضل البقاع، وتغذيتهم بأكرم المياه (بئر زمزم) وحتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس، والله يؤتي فضله من يشاء، ولاسيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم، الماهر منهم، باستقلالهم كثيرا ما يأتي به، واستهجانهم حسناته وتبعتهم سقطاته وعثراته .. أن أجاد قالوا: (سارق مغير) .. وإن توسط قالوا: (غث بارد وضعيف ساقط) .. وإن باكر لحيازة قصب السبق قالوا:

متى كان هذا، ومتى تعلم، وفي أي زمان قرأ؟ ولامه الهبل!) .. فإذا سلك غير السبيل التي عهدوها، حمى الوطيس على البائس، وصار غرضا للأقوال، ونهبا للألسنة، وعرضة للتطرق إلى عرضه .. فإن لم يتعلق من السلطان بحظ لم يسلم من المتألف .. وعظم يسير خطبه، واستشنع هين سقطه، واشتط عليه، وسترت فضائله، فتنكسر لذلك همته، وتطل نفسه، وتبرد حميته.."

لكم لقي ابن حزم حقا! وقد وصف أحد المنصفين من خصومه ما كان يلقاه: "أن ابن حزم أصابه ما أصابه من الحسد الذي لا دواء له، لأنه أزهد الناس في عالم أهله..".

وفي شعبان سنة 456 هـ، كان ابن حزم قد جاوز السبعين بنحو عامين، وقد أنهكه العمل الدائب، والصراع المتصل، والجحود والاضطهاد، وهدته جراحات الغدر! لقد آن للقلب المعذب أن يستريح! ..

وعندما شعر بدنو الأجل قال قصيدة جاء فيها:

عفا الله عني يوم أرحل ظاعنا فوا راحتي إن كان زادي مقدما عن الأهل محمولا إلى ضيق ملحد

ويا نصبي إني كنت لم أتزود

ثم سكت قلبه إلى الأبد، ولكن أصداء من صوته عبرت أطباق التاريخ! ويمضي الزمن ليحكم الأندلس بعد قرنين من وفاة ابن حزم حاكم ينشر كتب الفقيه المضطهد، ويحمل الناس على الأخذ بما جاء فيها .. ثم يطارد ذلك الحاكم اتباع الأئمة الأربعة ويحرق كتب الاجتهاد بالرأي وكتب الإمام مالك بصفة خاصة، ويخير الناس بين الأخذ بمذاهب ابن حزم واتباع ظاهر القرآن والسنة أو السيف..!

وتعبر آراء ابن حزم جسور الزمن، لتؤثر في المشرق العربي على أفكار فقيهين من أصحاب المذاهب، ثار كلاهما على التقليد فحاول التجديد .. واصطك كل منهما بعصره وكابده عصره .. هما عز الدين ابن عبد العزيز بن عبد السلام الشافعي، وتقي الدين تيمية الحنبلي ..

 

عدد المشاهدات: 9417
التعليقات على الإمام ابن حزم

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا المقال الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
22046

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

سجل في النشرة الاخبارية في نور الله
أخبار المسلمين الأكثر قراءة
خلال 30 أيام
30 يوم
7 أيام